نشأة علم النفس المهني وتطوره

لقد كان العمال منسيون . في فترة ما قبل الثورة الصناعية في الخارج , حتى بعد هذه الثورة بفترة من الزمن . فقد كانوا أول الأمر أرقاء وعبيداً , ثم أخذ أصحاب الأعمال ينظرون إليهم نظرتهم إلى الآلات التي يديرونها , ثم عدوهم سلعة تشتري وتستخدم كما تستخدم (( الأشياء )) والمواد الخام يمين عليها قانون العرض والطلب ... وقد كان العامل في نظر أرباب الصناعة كسولا بطبعه يكره العمل بفطرته فهم لا يعمي إلا طمعا في المال أو خوفا من الطرد , ولا يبذل من الجهد في عمله إلا على قدر ما يدرا عنه غائلة الجوع والبطالة .

ولم يغيب هذا الوضع عن شعور بعض الفلاسفة والأدباء ولاقتصاديين , منذ مطلع القرن التاسع عشر فوجهوا الأنظار إلى الخطورة التي لا بد أن يتمخض عنها هذا الاتجاه الذي يرمي إلى العوامل والاعتبارات الإنسانية في الصناعات والإنتاج . لكن ملوك الصناعة وأرباب المال أصموا آذانهم واستكبروا استكباراً .
وما انتصف القرن التاسع عشر حتى (( دارون ))Darwin بنظريته التي تقوم على (( تنازع البقاء و بقاء الأنسب )) فكأنما كانت لقيا وقع عليها أقطاب الصناعة يؤيدون بها مواقفهم العاتي من العمال . وسرعان ما شاع بين القوم أنه من الإجرام معونة الضعيف أو الفقير ! . حتى لقد قال الفيلسوف الإنجليزي (( سبينسر )) Spencer إن لكل إنسان الحق في الحفاظ على حياته , لكن بما أنه كتب علي الأنسان البقاء وعلى غيرهم الفناء , فيجب أن يكون الناس أحراراً كي ينافس بعضهم بعضا وكي يثبتوا صلاحيتهم للبقاء . فالتناحر والصراع الموصول من القوانين الرئيسية للحياة .... وكان لا بد لذلك من رد فعل عنيف ظهرت بوادره في بعض المذاهب المتطرفة التي شهدتها نهاية القرن الماضي .
وحتى وقت قريب كان أصحاب الأعمال منصباً على الربح ليس غير وعلي ما يقول عليه الربح من دعائم , كالحصول على المواد الخام بأقل تكلفة , والإحاطة بأسعار السوق أولا فأول , وتقدير قوة المنافسين وخطورتهم و العمل على فهرهم والتغلب عليهم , والاتصال بالعملاء ودراسة مراكزهم المالية ودرجة الاعتماد عليهم . أما العامل نفسه فلم يكن موضع تفكير أو اهتمام .. كذلك كان اهتمام الصناعة منصباً على التنظيم المادي للإنتاج لا على تنظيم العمل الإنساني , فكانوا يهتمون بالآلات والأدوات والمعدات والمواد الخام وأماكن العمل .....
يهتمون بتحسينها وتطويرها , أما العامل فلم يلق إليهم بالا لأنهم عنصر ثانوي في الإنتاج . لم يتساءل أحد عما إذا كانت الآلات أو العدد أو المواد مكيفة للعامل بحيث يستطيع أن يديرها أو أن يستعملها في غير عناء . كذلك لم يتساءل أحد عما إذا كان العامل نفسه مكيفاً تكييفاً صالحاً لعمله , بمهني أنه يملك من القدرات ولاستعدادات والصفات ما يؤهله لعمله , ذلك أن أصحاب الصناعة كانوا يؤمنون بأن العمل الإنساني يمكن أن يستعاض عنه بعمل الآلات – تلك الآلات المعقدة الجبارة الدقيقة التي أخرجتها عقول المخترعين في القرن التاسع عشر وقبله .
غير أن هذا الرأي سرعان ما ظهر خطؤه تدريجيا . فالطاقة الإنسانية لا يمكن أن يستعاض عنها جميعها بطاقة الآلات . والإنسان لا يزال هو الذي يدير الآلة و يشرف عليها و يوقفها ويصلحها ... وهي لا تستطيع أن تنحيه عن العمل فيأخذ كل مكانه فيه , بل الأمر بالعكس فقد أصبحت الآلة تتطلب من العامل قدرات ومهارات وصفات من طراز أدق و أرقي , فمن طلب زيادة في الإنتاج فعليه ألا يغفل عن أثر العنصر الإنساني حتى في عنصر الآلة .
لم يبدأ الباحثون بتطبيق علم النفس التجريبي على مشاكل العمل والصناعة والإنتاج قبل بدء القرن العشرين وكان أقدم خبراء علم النفس الصناعي , المهندس الأمريكي (( تيلور )) 1856 – 1915 . فقد كان أول من وجه الأنظار – بصورة علمية تجريبية – إلى العنصر الإنساني كعامل رئيسي في الإنتاج ... غير أن اهتمامه بالعامل كان الطالع اهتماما أساء إليه و إلى علم النفس كما سنري .
كان تيلور يلاحظ أثناء عمله بالشركة والمصانع أن الطرق التي يتبعها العمال والصناع في أداء أعمالهم طرق عقيمة في أغلب الأحوال مما ينجم عنه خسارة و تدبير في الأموال . و كان المعتقد في زمنه أن الخبرة والمران كفيلان أن يقع العامل من تلقاء نفسه على الطرق المثمرة و الحركات المفيدة اللازمة لعمله , بل كفيلان بإزالة الحركات الطائشة والدخيلة والضارة بالعمل تدريجا غير أن تيلور لم يأخذ بهذا الرأي , أي بقدرة العامل علي أن يقع بنفسه على أفضل طريقة لعمله : صحيح أن هناك حالات تشذ عن هذه القاعدة , لكنه من الحمق أن نترك هذا الأمر للمصادقة , فنذع العامل حتى يجد بذكائه و جهوده الخاصة أحسن طريقة لعمله .
لذا أخذ تيلور ينصح بعمل دراسة دقيقة منظمة للعمل الصناعي في كل مرحلة من مراحله – سواء كان هذا عمل بناء أو نجار أو خراط أو ميكانيكي أو كاتب على المكتاب , دراسة تتناول كل مرحلة بالملاحظة والتحليل والتجريب وتحليل العمل إلى حركاته وعملياته الأولية التي لا يمكن تحليلها إلى أبسط منها , ثم استبعاد الحركات الزائدة والطائشة ثم تقدير الزمن اللازم لكل حركة من الحركات الضرورية تقديراً دقيقا ... ثم التأليف بين الحركات الأولية الضرورية في مجموعات تكون أنسب طريقة و أسرعها لأداء العمل , تكون (( الطريقة المثلي الوحيدة )) التي يجب أن يتبعها كل عامل في أداء العمل .
ولم تقف جهود تيلور عند دراسة الحركة و الزمن على هذا النحو , بل كان يعني أيضا بدراسة الأدوات والعدد والمواد التي يستخدمها في عمله : وضعها وشكلها وترتيبها ... حتى ييسر على العامل عمله , و يجنبه القيام بمجهود لا اعي له فيزيد إنتاجه ... ومن هذه الناحية يعتبر تيلور منشئ حركة ((الهندسة البشرية)) في ميدان علم النفس الصناعي .
ولقد وضع تيلور نظاما لزيادة الكفاية الإنتاجية يقوم على دعائم ثلاثة :
1- ألا يختار من المتقدمين لعمل من الأعمال إلا أحسنهم وأكفأهم .
2- ثم يقوم بتدريبهم بأن يفرض عليهم أداء العمل بالطريقة المثلي الوحيدة حتى يصلوا – إن استطاعوا – إلى مستوى الإنتاج النموذجي .
3- ثم يلجأ بعد هذا الاختبار و التدريب حفزهم على زيادة الإنتاج بمكافآت مالية .
ولكي يتحقق تيلور صدق دعواه أخذا يطبق نظامه على نطاق واسع منذ عام 1898م . من ذلك أنه أستأذن إحدى شركات الصلب الكبيرة بالولايات المتحدة في إجراء بحث فني على عملية شحن الخام وتفريغه , و وقع اختياره على قسم بالشركة يجري فيه تجربته . وكان بالقسم 75 عاملا يقوم كل واحد منهم بنقل حوالي 5,12 طنا من الحديد في اليوم , و هو إنتاج كان يبدو معقولا في نظر ملاحظي العمال و موظفي الشركة , و لم يكن يدور بخلد أحدهم أنه من الممكن زيادته .
أخذ تيلور يلاحظ العمال ملاحظة دقيقة أثناء عملهم , حتى استقر به المطاف على عامل هو لندي قوى البنية مفتول الذراعين , آنس فيه أنه ممن يحبون المال , كما آنس فيه أنه ممن يطيعون ويصدعون إذا أمروا ... فجاءه تيلور يعده بزيادة أجره إن عمل وفقا لما يميله عليه من تعليمات وأوامر لا يناقشها أو يجادل فيها . وقبل الرجل فأخذ تيلور يجرب عليه ما استطاع من طرق لنقل الحديد في شحنه و تفريغه . فكان يكلفه باستخدام جاروف كبير تارة , وآخر صغير طوراً , وجاروف متوسط الحجم تارة أخري . كان مراحل تارة أخري . كان يطلب إليه أن يسير متى كلف بالسير , و الوقوف متي أمر بالوقوف , وبرفع الحديد حين يطلب أليه ذلك وبإنزاله عند الأمر .... وهكذا حتى ظفر المهندس الأمريكي آخر الأمر بما كان يصبو إليه , و هو أفضل طريقة لأداء هذا العمل . فإذا بهذا العامل قد أصبح قادراً على أن ينقل في اليوم الواحد 5,12 أي بزيادة في الكفاية الإنتاجية تساوي أربعة أمثالها .
وكم كان سرور الشركة بهذا الفتح الجديد فإذا بها تطبق نظام تيلور – الذي يقوم على الاختيار والتدريب – على جميع عمالها الذين يؤدون هذا العمل . غير أنها رأت أن أغلبيتهم الساحقة لا يستطيعون اللحاق بهذا العامل الهولندي العتيد في كفايته وسرعته . فكانت تطرد من عجز عن إدراك مستواه النموذجي .
وهكذا استطاعت الشركة أن تخفض عدد العمال الباقين بمقدار 60 % لكن الشركة استطاعت أن توفر حوالي 75000 دولار في السنة , فآمنت بنظام تيلور , وتبعتها في ذلك شركات كثيرة .
ومما هو جدير بالذكر أن تيلور كان يعيد عملية الاختبار كل عدة شهور أو عدة سنوات ليستبعد العمال الذين قل إنتاجهم من جراء ما أصابهم من كلا وإرهاق في أعقاب أعمالهم المضنية المفروضة .
لقد كان تيلور يرجو من نظامه هذا رفع مستوى معيشة العامل و تحسين صحته بالإضافة إلى زيادة إنتاجه . كان يرجو لفت الأنظار إلى أهمية العنصر الإنساني كعامل أساسي في عملية الإنتاج , لكنه في الواقع أهمل العامل , و لم يهتم إلا بالعمل يحلله تحليلا دقيقا . وقد أخطأ التوفيق في أكثر من موضوع .
1- فقد كان ظالما حين جعل أقصي إنتاج لأكفأ عامل الإنتاج النموذجي الذي يجب أن يصل إليه جميع العمال على ما بينهم من فوارق في القدرة والقوة ودرجة الاحتمال ... وإلا كان مصيرهم الطرد . في حين يقضي العدل أن يكون إنتاج العامل المتوسط هو الإنتاج النموذجي .
2- كما أنه كان يفرض علي الجميع ((طريقة مثلي واحدة)) كأن العمال يتشابهون جميعا في تكوينهم النفسي والجسمي و سرعتهم في العمل وقدرتهم على التعلم وإيقاعهم الطبيعي . صحيح أن هذه الطريقة قد تفلح مؤقتا إن تكون ضريبتها عالية من صحة العامل وسعادته . فإن قسر العمال عليها من طريق المكافآت شعر العامل أنه مقيد معتقل أو مستبعد , و كان مصيره إلى الانهيار .
3- و أي نظام إنساني ذلك الذي يسارع بكلال العامل وإعيائه بعد أمد قصير لقاء دراهم معدودة ! فإن تهافت العامل وانهار كان مصيره التسرع دون استغلال للمطرودين بتوجيههم إلى إخفاقهم . الحق أنه ((اقتصاد)) ينطوي على التبذير و على إجحاف باليد العاملة يكابده جسم المجتمع .
لقد أهما العوامل النفسية التي تؤدي إلى تكيف العامل لعمله , كما أهمل الآثار النفسية التي تترتب على ما يفرضه على العامل من شروط صارمة و قيود , كما غفل عن الفروق الفردية بين العمال كأن العامل يستطيع تكييف نفسه كما يريد فإن لم يفعل فالسبب هو كسله أو إهماله أو فتور همته أو تمرده أو سوء نيته .
ومع هذا فقد كان نظام (( تيلور )) فاتحة الطريق إلى حركات ((الاختيار المهني)) و ((التدريب المهني)) و (( دراسة الحركة والزمن)) كما أبرز للعيان ما بين الناس من فوارق في القدرة على العمل ز علي الاحتمال , و أماط اللثام عن الصلة الوثيقة التي تربط العامل بالعمل الذي يؤديه , و عن وجود عوامل نفسية وجسمية تهيمن على نشاط كل فرد , كما أظهر لرجال الصناعة الذين يريدون تشكيل (( المادة الإنسانية )) علي أهوائهم أن هذه المادة قوانينها الخاصة بها , و هي قوانين يجب أن يعرفها مكل من أراد استثمار هذه المادة .
لكن العيوب العلمية والإنسانية لهذا النظام لم تلبث أن بدت للعيان . تلك العيون التي أساء بها إلى علم النفس من حيث كان يرمي إلى الاستجابة به , و التي تبث الخوف والنقمة في نفوس العامل من نظام تيلور وغيرة من النظم التي يبتدعها (( علماء النفس )) لتحسين طرق العمل . و هو خوف ونقمة لا نزال آثرهما إلى يومنا هذا .
وخلف من بعده تلاميذ له وغيرهم من الباحثين أضافوا إلى نظامه وتناولوه بالتهذيب والتصويب , مما سنلتقي ببعضه على صفات هذا الكتاب .
في مطالع هذا القرن وثب علم النفس الفارق وثبات سريعة . فقد خرج العالمان الفرنسيانSimon , Binet بأول مقياس شامل لاختبار الذكاء في عام 1905 م وهو اختبار يستطيع تقدير مستوى الذكاء من سن الطفولة إلى سن الرشد , ز منه يمكن تقدير الفروق الفردية في الذكاء بين تلاميذ الصف الواحد . أو عمال المصنع الواحد , أو جنود الكتيبة الواحدة . وسرعان ما ترجم هذا الاختبار إلى عدة لغات و طبق في البلاد كثيرة . بل سرعان ما قام الجدل حول طبيعة الذكاء . أهو قدرة عامة واحدة وملكة مستقلة , أم هو من عدة قدرات , و حتى إذا سلمنا أن الذكاء قدرة عامه واحدة , أفلا توجد إلى جانب قدرات أخري , وما هي القدرات , وما الصلة بين بعضها وبعض , و كيف السبيل إلى قياسها .
لا شك أن الذكاء ضروري للنجاح في كثير من المهن , لكنه لا يكفي وحده للنجاح في أخري . فقد يكون على درجة عالية من الذكاء لكنه لا يصلح أن يكون جراحا ناجحا , أو خراطا أو نجار أثاث ناجح أو مشرفا ناجحا على العمال .
وقد أفاد علم النفس الصناعي الناشئ من حركة القياس هذه , خاصة في مسائل (( المواءمة المهنية )) التي تتضمن التوجيه المهني والتأهيل المهني والاختيار المهني والتدريب المهني .
وجاءت الحرب الأولي فأكدت للمرة الثانية المحرك الإنساني لا يمكن أن يعامل كالمحرك الآلي . فلكي تستغل قوة الإنسان إلى أقصي حد لا بد من مراعاة العوامل الجسمية والنفسية التي تهيمن على نشاطه . من ذلك أن ساعات العمل قد زادت في بعض البلاد المحاربة حتى بلغت 15 ساعة في اليوم بدافع من وطنية العامل . لكن الإنتاج لم يزيد بل قل إلى درجة أفزعت السلطات , كما زاد تغيب العمال من جراء المرض والتغيب , وكثرت الحوادث , واكتظت المستشفيات بالمرض . فهرعت السلطات إلى الأطباء و علماء النفس و وظائف الأعضاء . وعقدت اللجان لدراسة هذه الكارثة , فأسفرت نتائجهم جميعا عن أن هناك سوء استغلال للقوى الإنسانية بل إن تنظيم العمل نفسه كان معيبا لأنه لم يراع (( العامل )) الإنساني . إن الناس ليسوا آلات . ومن ثم يستطيعون بقوة الإرادة مضاعفة جهودهم . غير أن هذا الإغراق في العمل لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير محدود , لا شك أن زيادة ساعات العمل اليومي – في حدود معينة – تزيد الإنتاج . فالعامل قد ينتج في ست ساعات أكثر مما ينتجه في خمس ساعات أو أربع . لكنه هل إذا عمل 11 أو 12 أو 15 ساعة في اليوم , ارتفع إنتاجه بنفي النسبة ؟ لقد كانت هذه ناحية دعت إلى الدراسة والبحث , بل كان إحدى نقط التحول الهامة في الصناعة وفي علم النفس .
ومما لفت نظر السلطات أيضا أثناء الحرب كثرة حوادث الطيران الحربي التي كانت تعزى إلى (( المصادفة )) البحث , فهب علماء النفس يدرسون هذه الظاهرة , وسرعان ما اكتشفوا أن مهنة الطيران تحتاج إلى استعدادات خاصة لم يكن يملكها أغلب من كانوا يتورطون في هذه الحوادث .
ثم دخلت الولايات المتحدة هذه الحرب في نهايتها عام 1917م , ولم يكن لديها في ذلك الحين جيش فعملت على إنشائه . و في عنفوان هذه الثورة الوطنية , أهيب بعلماء النفس أن يسهموا في هذا المجهود الضخم , فتألفت لجنة منهم عهد إليها فحص المجندين (1) لاستبعاد ضعاف العقول منهم ومن لا يؤهله ذكاؤه للخدمة في الجيش (2) توزيع الصالحين للخدمة على أسحله الجيش المختلفة كل فرد علي حسب ذكائه (3) تزيد كل فريق ببرنامج ملائم للتدريب العسكري . فقام علماء النفس بصوغ مقياسين جمعيين لاختبار الذكاء – أي يمكن إجراؤهما على عدد كبير من الأفراد في وقت واحد – أو لهما لقياس ذكاء من يعرفون القراءة والكتابة والثاني للأميين . ثم طبق المقياسان على ما يقرب من مليون وسبعمائة ألف مجند قبل قبولهم بالجيش .
و إبان هذه الحرب نفسها استعانت القوات المسلحة الأمريكية بعلماء النفس مرة أخري لاستبعاد وإعفاء من بلغ به الاضطراب الانفعالي أو المرض النفسي درجة تجعله عاجزا عن احتمال مشقات الحياة العسكرية . فاشترك فريق منهم مع أطباء نفسيين في وضع استيفاء يجري على المجندين فيعفي منهم من يخشى أن يصاب بانهيار نفسي إن التحق بخدمة الجيش .
وهكذا يمكن اعتبار هذه الحركة التي قامت بها القوات الأمريكية حركة رائدة في إرساء قواعد علم النفس الصناعي .
وبالرغم من أن المقاييس السيكولوجية التي صاغها علماء النفس للقوات الأمريكية لم تكن على درجة كافية من الدقة والضبط بما نراه في مقاييس اليوم , إلا أنها نجحت مع ذلك في أداء مهمة اختيار الجنود وتصنيفهم و توجيههم اثناء فترة الحرب .... و قد كانت هذه التجربة علم النفس يرفض نفسه علي شئون الإنتاج بعدما اتضح أن مشكلة العمل , في المصنع وفي الجيش وفي غيرها لا يمكن أن تعالج على أنها فرع من الميكانيكا أو الهندسة , بل إنها تنطوي على عنصر نفسي لا بد من مراعاته . فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ كثير من المؤسسات الصناعية والتجارية وكليات الجامعات الأمريكية في أن يجذوا حذو الجيش من حيث تطبيق مقاييس الذكاء في استبعاد المتقدمين غير الصالحين , و في انتقاء أكفئهم , و كذلك في مسائل التعيين والترقية . وقد استعانت هذه المؤسسات بكثير من الخبراء الفنيين الذين كانوا يعملون في الجيش للقيام بهذه الأعمال .
كما بدأت المؤتمرات الدولية تنعقد من أخصائيين في علوم النفس و الطب و الهندسة و الاقتصاد لدراسة مشاكل الأعمال الصناعية و الإنتاج . وألحقت ببعض الجامعات معاهد علمية تخصصت في الدراسة العمل الإنساني من النواحي السيكولوجية . كما قامت في غير الجامعات معاهد أخري و معامل وجمعيات ترمي إلى الغرض نفسه . ففي عام 1921م أنشئ (( الاتحاد السيكولوجي )) في الولايات المتحدة , وفي عام 1920م أنشئ (( المعهد القومي لعلم النفس الصناعي )) بلندن وهو معهد اعترفت به الحكومة , وفي عام 1922م أنشئ معهد علم النفس الصناعي في موسكو .. و لنعرض علي سبيل المثال نعض أوجه النشاط التي يضطلع بها معهد لندن . يقوم هذا المعهد إلى جانب ما يجريه من بحوث خاصة بمعونة الصناعات المختلفة على حل ما يتعرض لها من مشكلات صناعية حلا علميا مثل :
1- تحديد الاستعدادات اللازمة للنجاح في المهن الصناعية والتجارية المختلفة , و صوغ اختبارات سيكولوجية لقياس هذه الاستعدادات كي يتسنى اختيار العمال والموظفين على أساس علمي .
2- البحث عن أفضل طرق العمل في المصانع والمكاتب المختلفة .
3- أحسن توزيع لفترات الراحة في المصانع المختلفة , وأنسب الوسائل لخفض التعب أو درئه .
4- أفضل الطرق لخفض الملل وزيادة اهتمام العامل بعمله .
5- تنظيم الإعلان والدعاية لترويج المنتجات .
6- تحسين الظروف الفيزيقية للعمل : كالإضاءة والتهوية ودرجة الحرارة والرطوبة .
7- تحسين العلاقات الإنسانية بين الإدارة و العمال .
8- تنظيم محاضرات و برنامج تدريبية للعمال والموظفين ورؤساء العمال والمشرفين عليهم .
ولقد ظهر في الآونة الأخيرة اتجاه حديث يميل إلى التعامل مع العامل من خلال أنماط بحيث يمكن أن نضم الأنساق والآلة والعلاقات البشرية والصناعة كلها في نسق واحد خاصة وأن التغيرات المختلفة من عمل إلى عمل يكمن في كنف هذا النسق إلى النسق المماثل له في مجال أخر ...
تعريف علم النفس المهني
هو العلم الذي يتعامل مع السلوك البشري في مجال الصناعة وهو العلم الذي يقوم بتطبيق المعرفة السيكولوجية في مجال الصناعة سواء فيها يتعلق بنشاط الكائن البشري وعلاقة هذا النشاط بالآلة أو علاقة هذا النشاط بزملاء العمل أو فيه يتعلق بالتفاعل الداخلي بين قدرا الشخص وميول واتجاهاته وفيه , وبنائه النفسي علي وجه العموم وعلاقة ذلك كله بتوافقه المهني ورضاء من العمل وتعرضه للحوادث وروحه المعنوية وتفوقه في عمله أو اخفاقة فيه وطموحه إلى الترقي أو الإنجاز ...الخ – ليس ذلك فحسب بل أن هذا النوع التطبيقي من فروع علم النفس , يمكن أن يد الفروع الأساسية من العلم ببعض مكتشفاته من خلال الممارسة اليومية في مجال الصناعة – ومن ثم تكون مساهمة الفعلية في إثراء المعرفة السيكولوجية .
حتى الآن فانه يتوجه أساسا إلي الإنسان في المصنع عبر عدد من الأبعاد وربما كان من أهم الموضوعات التي توجه إليها هذا الاهتمام .
1- الإشراف وأبعاده النفسية والاجتماعية والفنية والإدارية .
2- القيادة . وما يرتبط بها من سياسات التحذير والحزم وعلاقات الإنتاج .
3- التفاعل بين الجماعات في المجال المهني , وما يمكن أن يسفر عنه من أنماط سلوكية مؤثرة في العمل .
4- التنظيم والإدارة . وما يترتب على استخدام أسلوب معين علي علاقات العمل والروح والمعنوية للعاملين وعلاقة كل ذلك بعملية الإنتاج .
5- الهندسة البشرية وهي تهتم أساسا بدراسة الكفاءة البشرية لدي الإنسان العامل . وهي تحاول أن تطوع الآلة للإنسان بدلا من تطويع الإنسان للآلة.
مفهوم المهنة
يستخدم اصطلاح المهنة بمعني ضيق محدود وآخر واسع شامل. فهي بالمعني المحدد الذي يرد في كتب الاقتصاد و الإنتاج تفيد كل مجهود ينصرف إلى استخراج ما في باطن الأرض والبحر و كذلك ما في الجو المحيط من موارد طبيعية . وتفيد أيضا تحول هذه المواد أو الخامات وما في حكمها على نحو يهيئها لإشباع الحاجات , و من ثم تنقسم الصناعات إلى مجموعات رئيسية ثلاث :
(1) مهن إستخراجية مثل استخراج البترول من آباره , والفخم وركائز الحديد من المناجم , و صيد الأسماك واللآلئ من البحار والمحيطات
(2) مهن تحويلية كصهر ركائز الحديد وتخليصه من الشوائب وتحويله إلى صلب و سحبه في صور عدة كأسياخ للمباني و
(3) مهن إنشائية مثل السفن والأحواض العائمة و المواني والمصانع والمساكن .
أما المهن بمعناها الدارج الشامل – في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية فتتسع لجوانب كثيرة ومتعددة من النشاط الاقتصادي وغيره , سواء كان مجالها المصنع أو المتجر أو المكتب أو المدرسة أو الحقل أو الجيش أو المهن الحرة ... فنحن نقول صناعة النقل , وصناعة السينما , وصناعة الفنادق ... بل تذهب لغتنا إلى أبعد من هذا فتقول صناعة الشعر , وصناعة التعلم , وصناعة الخطابة . ويقصد بالصناعة هنا كل علم يحصل عليه الإنسان بمزاولة العمل ... وفي اللغة الفرنسية تدريج الزراعة في زمرة الصناعات . و هم لا يقصدون بذلك إلى الصناعات الزراعة , إنما يريدون فلاحة الأرض واستنباتها . ولنذكر أن كلمة industry في أل إنجليزية تعني في الأصل (( حب العمل والانكباب عليه )) أيا كان نوعه .
ويري بعض العلماء قصر علم النفس الصناعي على أوجه النشاط الصناعي ومشكلات الصناعة بمعناها الضيق المحدد . في حين يري آخرون بسيط مجال هذا العلم كي يحيط و يعالج قضايا الصناعة بمعناها الواسع الشامل . وهذا ما سنسير عليه في هذا الكتاب , وإن كنا سنركز في أغلب الأحيان على الصناعة بمعناها المحدود , وذلك لما نحن في حاجة راهنة إليه.
صلة علم النفس المهني بفروع علم النفس الأخرى
يعتمد علم النفس الصناعي على ما أضافته أغلب فروع علم النفس الأخرى – النظرية والتطبيقية – من كشوف ومعلومات .
حيث يستفيد من علم النفس الفارق الذي يدرس ما بين الأفراد أو الجماعات من فوارق في الذكاء والاستعداد والشخصية ... ذلك أن الأساس السيكولوجي لعمليات التوجيه والاختيار والتأهيل والتدريب المهني يقوم علي مراعاة ما بين الأفراد من فوارق مختلفة حتى يمكن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب . والفوارق الفردية التي تهمنا في مجال الصناعة كثيرة منوعة من أهمها : الفوارق في الذكاء والمواهب الخاصة والحيوية الجسمية والاتزان الانفعالي و الإفادة من التدريب والقابلية للتعب والتعرض لحوادث العمل والصلاحية لقيادة الجماعات العامة ....
كما يفيد من علم النفس التعليمي في عملية التدريب بوجه خاص , سواء كان هذا التدريب صناعياً أم إداريا , يدوياً كان أم اجتماعيا . ذلك أن التدريب عملية تعلم وتعليم . وعلم النفس التعليمي يبين لنا طرق التعلم الاقتصادية والشروط التعلم الجيد والعوامل التي تسهل التدريب وتعطله , وأثر الدوافع والبواعث والثواب والعقاب والتعب وفترات الراحة في سير التدريب والإنتاج بوجه عام - كما أنه يفيد أخصائي التدريب في تخطيط برامج التدريب وتقييمها , وأفضل طرق الإرشاد أثناء التدريب .
وعلم النفس الاجتماعي من الفروع التي لا بد أن يحيط بها كل متهم بالعلاقات الإنسانية في مجال الصناعة . إذ هو يبين لنا العوامل التي تسهل العمل الجماعي أو تعطله , وطرق تحسين العلاقات الإنسانية بين الجماعات العامة في المصنع أو الشركة بما يزيد من تماسكها ويرفع من روحها المعنوية وإنتاجها . والشروط التي يجب أن تتوافر في قائد الجماعة بوصفه أخطر (( عامل )) في البيئة النفسية للعمل .
وكل من علم النفس الاكلينيكي وعلم نفس الشواذ في تشخيص مختلف ضروب الاضطرابات النفسية والسلوكية في مجال الصناعة : العامل المشكل والمدير المشكل والعامل المكثر من الحوادث العمل أو المسرف في الشكاوي أو المتغيب هذا إلى ظاهرة الصرع الصناعي , والأمراض النفسية المهنية , وكذلك الأمراض الجسمية النفسية المنشأ الشائعة بين صفوف العاملين ثم يختاران أنسب طرق الإرشاد النفسي أو العلاج النفسي لكل حالة .
والأخصائي في علم النفس الصناعي في حاجة ماسة إلى استخدام مقاييس واختبارات سيكولوجية ثابتة وصادقة في تقدير الذكاء والقدرات الخاصة والميول والاتزان الانفعالي والكفاية الإنتاجية .... وكل تلك ضرورية في تحليل الأعمال المهنية لمعرفة ما يتطلبه النجاح فيها من قدرات وسمات مختلفة , و كذلك في تصنيف المهن المختلفة وتقييمها وتحديد الأجور , فضلا عن سبر الروح المعنوية للعاملين , ومدي تماسك الجماعة العاملة , واستبعاد العمال المشكلين والمستهدفين لحوادث العمل .

 

المصدر: موقع أكاديمية علم النفس

 
 
العناصر المرتبطة

تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة