الصناعات اليدوية في منطقة الفرات الأوسط أساس للصناعات القائمة حالياً منذ الألف التاسع قبل الميلاد

مصر - قبل الميلاد وارتبط ظهورها مع بدء الزراعة التي حملت تغيرات مصيرية في طريقة الحياة الإنسانية إذ فتحت هذه التغيرات آفاقاً جديدة أمام الإنسان فأصبح هناك ولأول مرة مجتمع قائم على الزراعة وتربية الحيوان توافرت فيه ;سبل المعيشة إلى درجة مكنت من التفرغ للصناعات الحرفي.

وقد ظهرت الصناعات اليدوية في منطقة الفرات الأوسط في الألف التاسع ال ياسر شوحان مدير الآثار والمتاحف بدير الزور إنه مع بدء معرفة الإنسان بإنتاج الغذاء وطرق تخزين المواد ظهرت صناعات حجرية ذات تقنيات خاصة باستعمال أدوات الصقل الحجرية حيث عثرت البعثات الأثرية على مجموعة كبيرة منها في تل بقرص شرق مدينة دير الزور ب 40 كم وشملت هذه اللقى رؤوس سهام وفؤوساً حجرية وبلطات ومخارز ومثاقب ومكاشط جلود وسكاكين وحجر رحى وأواني منزلية استخدمت في صنعها تقنية الصقل الحجرية لتشكيلها ثم تنعم بالرمل فتأخذ ملمسا ناعما يضاهي ملمس الصناعات الخزفية في الوقت المعاصر واستخدم في صنع هذه الأدوات الحجر الكلسي المرمري المحلي إضافة إلى استخدام حجر الآوبسيديان المستورد من مناطق الأناضول وفي هذا دلالة على تجارة مبكرة جدا مع المناطق البعيدة.

وأضاف شوحان أن التبادل التجاري أسهم بشكل كبير في ازدهار المواقع وغناها وزيادة فعاليتها من خلال التواصل مع ثقافات أخرى حيث أدى تراكم الخبرات على مر العصور إلى تطور المهن وابتكار وسائل جديدة للصناعات الحرفية في الألف الخامس قبل الميلاد فبدأ الإنسان في تلك الفترة بصناعة مجسمات طينية على هيئة إنسان ثم ما لبثت أن تطورت إلى صناعات فخارية مرت بمراحل متعددة بدءاً من التشكيل اليدوي وصولاً إلى استخدام الدولاب الخشبي في تشكيل الغضار وهي تقنية لا تزال مستخدمة حتى الآن.

وعثرت البعثات الأثرية على كميات كبيرة من الأواني الفخارية في مواقع متعددة بعضها ملون بألوان مختلفة ويحمل رسومات تأخذ شكل عقارب وأفاع وأشكال نباتية أو هندسية وصور لراقصات ويتكرر المشهد نفسه على الآنية ذاتها ويستدل من هذه اللقى على أن صانعي الفخار في ذلك العصر كانوا يمتلكون تقنية التحكم بدرجة حرارة الفرن للوصول إلى تدرجات في الألوان والتحكم بقساوة الفخار وتتمثل اللقى بأوان منزلية وأخرى للتزيين أو لأغراض طقسية دينية وخواب وجرار وأباريق الشرب على شكل رؤوس الحيوانات حيث تم تصنيف 31 نوعا منه.

وأشار مدير الآثار والمتاحف إلى أن من أبرز المصنوعات التي عثر عليها هي الأنفورات وهي جرار فخارية تستخدم لتخزين الزيوت والخمور لتصديرها إلى أماكن بعيدة كما تم العثور على قوالب حلوى بأشكال ورسوم متعددة وهي تشبه في شكلها وطريقتها قوالب حلوى الكليجة التي تشتهر بها دير الزور في وقتنا الحالي كما عثر على أختام اسطوانية لختم البضائع تحمل اسم التاجر صاحب البضاعة.

وبين شوحان أن أكسيد النحاس استخدم في وقت متأخر في صنع الفخار المزجج كما ظهرت الصناعات الخشبية في صنع أنوال النسيج والأثاث المنزلي والعربات والمراكب النهرية والنواعير وهي تختلف عن باقي النواعير المعروفة اذ لا يستخدم فيها أي نوع من المعادن بل يتم تثبيت أجزائها بأسافين خشبية بدل المسامير وما أثار دهشة المنقبين التقنية التي استخدمت في صنع مصائد الفئران على شكل أقفاص خشبية.

ومع تعاظم الروابط الاقتصادية والتجارية أصبح بالامكان استيراد المعادن مثل الحديد والنحاس والقصدير والذهب والفضة من سفوح طوروس وزغروس ومناطق الخليج العربي وقبرص فأصبح التعدين مشروعاً حيوياً لممالك المدن في الفرات الأوسط في الألف الثالث قبل الميلاد فبدأت الحرف تأخذ تنظيما إداريا حيث تشير الوثائق الأثرية إلى تشكيل جمعية خاصة بالحرفيين تدعى كارو وهي مشتقة من جذر كار وتعني المهنة وثم بدأ التخصص في المهن وفق جهات العمل فظهرت ورشات خاصة لصناعة الأسلحة مثل روءوس السهام والدروع وورشات خاصة لصناعة الأدوات الزراعية مثل المحاريث والفؤوس والمناجل.

20091113-121408.jpg

وتابع شوحان إن استخدام البرونز شاع في تلك الفترة في حين استخدم الحديد على نطاق ضيق في صنع المسامير الصغيرة والكبيرة ومسامير تثبيت نصب التأسيس وصنع العجلات حيث تم الكشف عن أقدم عجلة في التاريخ في مملكة ماري واعتبر الحديد مادة ثمينة جداً في ذلك العصر لدرجة إعادة صهر الأجزاء الصغيرة المهترئة منه في أفران الصهر لإعادة سكبها وتصنيعها في ورشات خاصة كما استخدم النحاس في صنع الأواني المنزلية وصك النقود إضافة إلى العملات الفضية والذهبية. أما الصناعات النسيجية والغذائية فكانت من اختصاص النساء حيث كانت الأسيرات تلحقن بورشات العمل وتشير الوثائق الأثرية إلى وجود 21 نوعاً من الملابس الداخلية المصنوعة من الكتان والكوناكس المصنوع من الصوف وهو رداء طويل يشبه الجلباب ويحاط بمئزر وعلى أنواع من البطانيات والستائر وأغطية أسرة بوجهين صبغت بألوان مختلفة منها الارجواني والأبيض والأحمر والأخضر.

فيما الصناعات الغذائية احتوت أصنافا عدة من الطحين العادي والممتاز المصنوع من لباب القمح وطحين الشعير والبقول كما نشطت صناعة الخمور إذ كانت هناك تسعة أنواع من البيرة إضافة إلى أنواع كثيرة من النبيذ في ماري كما انشئت مستودعات الثلج لحفظ الخمور حيث تشير احدى الوثائق الهامة إلى أن زمري ليم ملك ماري كان يفتخر بأنه شيد مصنعا للثلج في ترقا التابعة لمملكته ومن الصناعات الغذائية الهامة صناعة الزيوت حيث كانت المعاصر تنتج 11 نوعاً بعضها كان يستخدم لأغراض دينية أو طبية حيث تدل الوثائق الأثرية على وجود أطباء مختصين.

ولفت شوحان إلى أنه من دلائل الرقي الاجتماعي في تلك الفترة ظهور الصناعات التزيينية حيث برزت صناعة الزيوت الطبية والعطور والحلي كصناعات هامة فكانت ورشات ماري تقوم بتصنيع 600 لتر شهرياً لعشرة أصناف من العطور و26 نوعاً من الحلي والمجوهرات الذهبية والفضية والأحجار الكريمة والخرز وهذا يدل على مدى التطور التقني و الدقة المستخدمة في صقل الأحجار الكريمة وثقب الخرز لاستخدامها في صنع القلائد والأساور.

بدوره رأى الباحث وليد اسماعيل أن الألف الثالث قبل الميلاد كان يعد مفصلاً أساسياً في حركة التطور البشري في منطقة الفرات الأوسط بما قدمته من معادلات حضارية أدت إلى توالد منجزات كبيرة اسهمت في تفعيل الحياة الإنسانية في جميع أوجهها الاقتصادية والاجتماعية والحرفية فأصبحت منطقة وادي الفرات منارة للعالم القديم فكانت بسبب غناها وازدهارها واتساعها هدفاً لمطامع الغزاة والمحتلين فتعرضت ممالك المدن في هذه المنطقة للنهب والتدمير وبدأ نجمها بالأفول إلى أن غابت تدريجيا عن الوجود ولم يصل من خبراتها في مجال الصناعات والحرف والفنون الى من أتى بعدها من أجيال إلا القليل.

وأضاف اسماعيل إن ظهور الصناعات الحديثة أدى الى انقراض العديد من المهن والحرف اليدوية القديمة التي كانت موجودة في منطقة الفرات باستثناء الصناعات الفخارية التي لا تزال تصنع بنفس التقنية من حيث تشكيل الغضار بالدولاب الخشبي والشي بالأفران وخاصة في ناحية البصيرة شرق مدينة دير الزور وأغلب تلك المنتجات يستخدم لأغراض الزينة ماعدا المزملة وهي جرار فخارية ذات قاعدة ضيقة وفوهة واسعة لايزال استخدامها شائعاً على نطاق ضيق في مناطق البادية لتنقية مياه الشرب وحفظها كما أن صناعة الأقراط والأساور الذهبية لا يزال بعضها قائما

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة