الصناعات البيئية والحرفية في محافظة قنا بجمهورية مصر العربية
ومن نماذج مدرسة الفنون الفطرية المصرية التي شهدت انجح وارقي وانفع مشروعات الأسر المنتجة التي لم تنظمها هيئة حكومية ولا تمولها منظمة اجتماعية تحس فيها بعبق التاريخ وعبير الحضارة في محافظة قنا إحدى محافظات صعيد مصر ، إذ بها عدد من الصناعات البيئية والحرفية المختلفة المتميزة .
وتبدأ رحلتنا مع هذه الصناعات في مركز ومدينة قوص إذ بها أقدم معاصر الزيوت في جمهورية مصر العربية وهى ذائعة الصيت ليس على المستوى الإقليمي ولكن على المستوى القومي أيضا حيث يعود تأسيسها إلى عام 1190 هجرية . حينما تدخل إلى المعصرة تطالعك الأزقة التي تتنسم منها عبق التاريخ وتشعر بأريج التراث يتسلل من أنفك إلى رئتيك ليكسبك انتعاشا يصل بك إلى أقصى درجات النشاط والفضول في آن واحد. وحينما تصل إلى باب المعصرة تطالعك تلك الوجوه التي تألفها وتكون كافة طوائف الشعب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تشترى إنتاج المعصرة من زيوت وعطور وبخاصة زيت حبة البركة وتجد تناسقا عجيبا بين المكان والناس .
أما المكان فيتميز بتصميم معماري بسيط ينقلك إلى القرن الماضي أو ربما الذي قبله وتجد على جدرانها بقايا من تاريخ كاد أن يندثر فهو يتكون من حجرتين الأولى واسعة يوجد بها دولابا لعرض المنتجات والحجر الذي يطحن الحبوب والبذور والذي يدور بواسطة بقرة وأما الثانية فحجرة المكابس و الأبراش وقد تلونت أرضية الحجرتين بشتى ألوان الزيوت التي تنتجها المعصرة .
ثم ننتقل إلى حضن الجبل الذي جعل الفنان الصعيدي يشحذ زناد فكره ليخرج لنا أروع الأعمال النحتية على الخشب ففي حجازه قبلي بمركز قوص يوجد مركز تدريب جمعية الصعيد للتربية والتنمية في أعمال النحت والنجارة الذي يعد أنموذجا رائعا لتوظيف طاقات وإمكانيات البيئة المحيطة لخدمة الفن . و يعود تاريخ النحت في حجازه قبلي إلى عام 1989 م وقد ادخله الراهب الفرنسي / بطرس ايون حيث كان أول من ادخل تلك الأعمال إلى قنا . بينما يعود تاريخ إنشاء المركز إلى وقت قريب وبالتحديد في عام 2002 م . بفكر فرنسي وايدى مصرية خالصة وخامات جنوبية تكتظ بها بيئة الجنوب ، استطاع الفنان الجنوبي أن ينحت أروع اللوحات الفنية الخشبية مستخدما موهبته الفطرية وطاقاته الإبداعية .
وثم إلى قرية جرا جوس بمركز قوص والتي تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل إذ يوجد بها أقدم مصنع لينافس العالم في صناعة الخزف اليدوي المتميز .
حينما تدخل إلى المصنع تطالعك البنايات التي تحكى تاريخ إنشاء هذا المصنع والذي يعود تاريخ إنشائه إلى حقبة تاريخية مضيئة من تاريخنا المعاصر وهى حقبة الخمسينيات . تحدثنا تلك البنايات عن تاريخها على لسان الفنان / نصير رنان بخيت فيقول أن المصنع تم إنشاؤه في عام 1954 م وكان صاحب الفكرة الراهب الجزويتى / اسطفان دى مونجلفييه ، وبناه المعماري الشهير المهندس / حسن فتحي صاحب تجربة العمارة الشعبية وأخذ أربعة من الفنانين العمل بهذا المصنع حتى تبوأ هذه المنزلة على مستوى الوطن بل ومستوى العالم .
وكل البنايات مبنية من الطوب اللبن لكي تلاءم الصناعة التي أنشئت من اجلها هذه البنايات على شكل يأخذ شكل القباب .
ويعود بنا رنان إلى الوراء ويقول لقد كنا نشترى الطن من الطين الاسوانى ( المادة الخام لصنع الخزف ) بسعر 25 جنيها للطن من القطاع العام بعد استخراج تصريح موقع من رئيس الوزراء آنذاك ممدوح سالم ، ثم يستيقظ على الواقع المؤلم فيقول أن الطن قد أصبح بسعر أكثر من 500 جنيه للطن بعد خصخصة الشركة التي كانت تورد المادة الخام . وعن التسويق يتذكر رنان العصر الذهبي للمصنع حينما كان يعج بالسائحين اللذين كانوا يأتون في أفواج إلى المصنع لكي يستمتعوا بشراء منتجاته .ولكن الآن توقفت حركة السياحة فاقتصرت حركة التسويق على الزيارات الفردية للسائحين بالإضافة إلى المعرضين اللذين يقامان في شهري مايو وديسمبر بالقاهرة والإسكندرية . وعن المنتجات يقول الفنان / فواز سيدهم سيفين أن المصنع كان في الماضي ينتج التماثيل للسائحين وكذلك أطقم الشاي والسفرة أما الآن فقد تغير الحال وأصبح المصنع ينتج الأطقم فقط ولذلك تقلص عدد العمال إلى أربعة يعملون على فترتين الأولى تبدأ من الثامنة صباحا حتى الثانية عشر ظهرا ، والثانية تبدأ من الثانية مساءا وتنتهي السادسة مساء .
وعن طريقة الإنتاج أخذنا فواز في جولة داخل المصنع الذي يتكون من ثلاثة بنايات : الأولى منها للمعرض ، والثانية لفرن الحرق ، والثالثة لأعمال تشكيل الطين والرسم . حيث تبدأ طريقة التصنيع من مخزن الطين ، حيث يوضع الطين في أحواض متصل بها برميل مثبت عليه موتور يقوم بضخ المياه في البرميل الذي يتصل بثلاثة أحواض عن طريق مجرى حتى يترسب الطين في الحوض وتتكرر هذه العملية لمدة خمسة عشر يوما ثم يترك في الهواء حتى يجف من الماء ثم يقسم إلى مربعات ثم يؤخذ إلى مخزن الطين ويرش بالماء ويخرج من طاقة إلى حجرة التشكيل ويخلط الطين لمدة ساعة ثم يشكل إما على هيئة تماثيل أو على هيئة دوائر تتم على دولاب ، ثم يجفف حيث تقل نسبة الرطوبة في المكان بعشرة درجات نتيجة ثلاجة صناعية عبارة عن حائط مفتوح من الخلف وتحته حوض ماء به قطع من الفخار ويغمر الحوض بالماء ، ثم يتجه الإنتاج نحو الفرن ليحرق على مرحلتين .المرحلة الأولى يخرج على لون البسكويت ثم يدهن ويرسم في حجرة الرسم ويرش ثم يعود إلى الفرن في مرحلة الحرق الثانية لتثبيت اللون في درجة حرارة ألف درجة مئوية ثم ينظف من التراب ويعرض في المعرض تمهيدا لبيعه للجمهور .
ولقد حظي المصنع بزيارة ملك السويد في عام 1986 م .ويظل هذا المصنع رغم المتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية شاهدا على عبقرية الفنان المصري الجنوبي الذي وظف إمكانيات البيئة المحيطة في مجال الفن التشكيلي .
وعلى الدرب نزور مركز نقادة الذي يعد واحدة من أشهر مراكز محافظة قنا في إنتاج صناعة الفركة وهى عبارة عن شال من الحرير المصنع يدويا والتي تمثل اعتقادا دينياً في بعض الدول الأفريقية بأنها تجلب البركة . ويقدر عمر هذه الصناعة بآلاف السنين تمتد إلى الفراعنة رأسا ويقال إنها كانت حكما على المحكوم عليهم بالسجن أو الإعدام أيام الفراعنة نظرا لمشقتها وجلوس الصانع على النول لساعات طويلة .
يطلق عليها الفركة أو كما يقولوا أصحابها صنعة الستر لأنها تستر ولا تغنى ، وتتميز بأنها صنعة عائلية تمارسها الأسرة بجميع أفرادها في المنزل الريفي ، المبنى من الطوب اللبني .
وبالكشف عن أسرار هذه الصناعة العتيقة التي تمتد إلى أغوار الماضي السحيق .
يقول عماد عبده سيدهم مسئول العقود والمشتريات بالوحدة المحلية بقرية نقادة ، أن صناعة الفركة تعد الصناعة الأولى بالمدينة حيث يبلغ عدد الأسر المشتغلة بهذه الصناعة 600 أسرة بنقادة وقرية الخطاره وتوفر حوالي 3000 فرصة عمل تبعا لمراحل الإنتاج اغلبهم من السيدات وكبار السن .
ويتذكر العصر الذهبي للفركة السودانية ، حيث كانت تصدر إلى السودان وكان يقدر الإنتاج سنويا حوالي 700 ألف قطعة فركه تقدر قيمتها حوالي أربعة مليون دولار وكان عدد العاملين بها 10000 أسرة بالمدينة والقرى المجاورة وعدد الأنوال 5000 نول وكانت تجلب الخيوط من شركة اسكو وشركة مصر للحرير الصناعي بكفر الدوار أما الآن فتستورد الخيوط من الصين والهند وتعتمد هذه الصناعة في أسعارها على استقرار الأحوال الاقتصادية التي إذا كانت مستقرة كان دخل الأسرة من الصناعة حوالي 300 جنيه شهريا أما في حالة التغيرات الاقتصادية يقل دخل الأسرة إلى 80 جنيها شهريا وقد توقف تصدير الفركة إلى السودان في نوفمبر عام 1987 وانعكس ذلك على الحالة الاقتصادية بالمدينة ويلتقط الأستاذ عبدا للاه زين العابدين مدير العلاقات العامة بالوحدة المحلية بمركز نقادة طرف الحديث فيقول إن هذه الصناعة تحتاج إلى مد يد العون من الشعبيين والتنفيذيين على مستوى المحافظة للنهوض بتلك الصناعة حتى يمكن رفع المعاناة عن هذه الفئة وللحفاظ على هذه الصناعة التراثية عن طريق عودة تصدير الفركة السودانية مما يحقق حياة كريمة للمواطنين .
وعن جهود المحافظة في مجال الفركة انه تم تدريب 40 شابا وفتاة من حملة المؤهلات المتوسطة لمدة ستة شهور في عام 2005 بمكافأة قدرها 130 جنيها شهريا للمتدرب ووصلت تكلفة هذه الدورة التدريبية إلى 100 ألف جنية .
والمدينة تنتج الفركة الدرمانى والسياحية والملاءة الاسناوى ( الحبرة ) بالإضافة إلى بعض أنواع الأقمشة مثل المبرد .ويضيف قائلا انه في الخمسينات من القرن الماضي كان يعمل بهذه الحرفة 90% من سكان المركز حيث كانت تقام الأفراح في يوم التصدير ، نظرا لان المدينة تصبح خلية نحل ويدب في شرايينها النشاط .
وعن الخامات تقول - عفاف برنابة هارون صاحبة ورشة منزلية تتكون من ثلاثة أنوال احدها لصنع الملاءة الاسناوى والثاني للفركة الدرمانى والثالث للشال المنقوش - أن الخامات تتكون من خيوط حرير أو غزل ( فبران ) تستورد من الصين أو الهند أو خيوط من الصوف وتبلغ لفة الحرير ( 4 كيلو ونصف بمائة وعشرة جنيهات ) وتصبغ ، وهناك أيضا خيوط من القطن مصبوغة سعر الكيلو 10 جنيه وهى متوافرة في الأسواق .
وعن طريقة الصناعة تقول أنها تبدأ بصبغ الخيوط في عجانية من الألومونيوم ويصبغ فيها 10 كيلو في المرة الواحدة ثم تبدأ مرحلة لف الخيوط وتقوم بها السيدة وداد سدراك ناشد ( أمها ) وتبلغ من العمر 70 عام وقد أخذت الحرفة عن أجدادها وتعمل بها منذ 60 عاما ، ثم بعد ذلك مرحلة السدوة ثم بعد ذلك تلف الخيوط ثم تصل إلى مرحلة اللقاية حيث تدخل الخيوط في النير وبعد ذلك في المشط ثم بعد ذلك مرحلة التصنيع بالمكوك على النول ومن العجيب أن المكوك به ريشة حمام صغيرة لا يتم العمل إلا بوجودها ثم بعد ذلك يعرض الإنتاج للجماهير .
وتقول كريستين برنابة هارون المتخصصة على نول منتج القماش الشال المنقوش أنها تعمل من الثامنة صباحا وحتى الخامسة مساءا وتصنع قماش المبرد وشال الكهنة وتتقاضى عن ذلك أجرا زهيدا يقدر بحوالي 6 جنيها عن القطعة الواحدة .
وعن التغطية الإعلامية يقول فادى جاد الرب ابادير ( تاجر ) إن هذه الصناعة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة حيث سجلت بعض القنوات مثل دريم والراى والثانية والثامنة حلقات عن هذه الصناعة كما انه كان يفد على المدينة وفود سياحية من رومانيا للتعرف على هذه الصناعة .
وعن تجارته يقول انه يجمع الإنتاج من كل الأنواع ويقوم بتسويقها بالمدن السياحية مثل الأقصر واسنا وأسوان وكومومبو وادفو والغردقة وشرم الشيخ .
فضلا عن صناعة السجاد اليدوي والتي تعتبر من أحدث الحرف التي أدخلت في نقادة حيث اكتسبت المرأة ميزة الحرفية الفنانة لتثبت تميزها وتضاهى باقي الحرف لتنتج لوحه فنيه للمناظر الطبيعية والتراثية والأشخاص واللوح الدينية المختلفة .
وصناعة سعف النخيل ( الجريد ) التي أمتاز بها مركز نقادة في توافر الجريد والفنان الذي يبدع في تصميماته .
وصناعة الفخار اليدوي التي اهتم بها أبناء قرية الترامسة منذ القدم ، إذ تدل التقنيات الأثرية التي أجريت على أن صناعة الفخار كانت منتشرة منذ آلاف السنين ، لوجود المواد الصالحة لهذه الصناعة ، واحتياج السكان إلى الأدوات الفخارية في طهي الطعام وحفظ المياه ، ومازالت هذه الصناعة موجودة في مناطق كثيرة داخل عدد من مراكز المحافظة حيث استطاع أبنائها أن يطوروا من الصناعة والاتجاه إلى إنتاج أواني غير تقليدية تجذب الجميع إليها .
و زراعة محصول قصب السكر في دشنا حيث أقيمت العديد من المصانع والصناعات على هذا المنتج ويقوم البعض بتصنيع العسل الأسود من قصب السكر وتقوم المحافظة الآن بتطوير المعاصر التي تنتج العسل الأسود وإحياؤه لهذه الصناعة التي قاربت على الاندثار .
ولما كانت الصناعات البيئية عنوان المحافظة وتاريخها وسر تميزها دعم اللواء / مجدي أيوب محافظ قنا تلك الصناعات باعتماد مبلغ 5.360 مليون جنيه من صندوق التدريب والتأهيل التابع لوزارة القوى العاملة والهجرة وذلك لاستكمال الأعمال المتبقية لإعداد وتجهيز مركز التدريب المهني بقفط . كما أن المحافظة في هذا الإطار تقوم بعدة إجراءات منها : تقديم كافة التيسيرات للجمعيات التي ترعى مثل هذه الأنشطة من خلال مديرية التضامن الاجتماعي .
وتقديم القروض من الصندوق الاجتماعي لمتدربين على هذه الحرف لبدء مشروعاتهم الصغيرة الخاصة بهم سعيا من المحافظة على تطوير هذه الصناعات وازدهارها ، كما يتم التنسيق مع بنوك التنمية لمنح قروض لتمويل هذه المشروعات . و تقوم المحافظة على سبيل المثال بافتتاح المعارض المهتمة بفنون النحت والتشكيل في قاعات قصور الثقافة ومراكز الشباب المختلفة ، كما يقام سنويا ملتقى الفخار تحت رعاية وزارة الثقافة والذي يضم اكبر الفنانين على مستوى الجمهورية ويتم عرض لوحاتهم وترويجها من خلال هذا الملتقى .
وهكذا استطاعت محافظة قنا وعبر سنوات تتابعت فيها الأجيال الكشف عن مدى تمسك الفنان المصري بتراث أجداده مهما تغيرت الأحوال وتغير الزمان لتظهر لنا الحكمة الإلهية وهى أن الإنسان ما خلق إلا ليعمر الكون ويكشف عما به من أسرار من خلال سبره لأغوار طبيعة تميزت بالعطاء منذ قديم الزمان .
منقول من:أخبار السعيدة
تفاعل مع الصفحة