تاريخ من التميز يصارع الاندثار
تعد الصناعات البيئية في مجتمع ما والموروثات التراثية واحدة من أبرز الفنون الشعبية الفطرية في تاريخ الحضارة الإنسانية, إذ تظل شاهدا حيا علي الثراء الثقافي والتحضر والتقدم, وخير دليل علي ذلك القري المصرية التي تجد فيها الإنسان المصري الذي عرفناه منذ آلاف السنين بنفس ملامحه ونفس أدواته البدائية ونفس الشفافية والعمق والثراء الفني, وتجد أمامك الفراعنة أحياء يواصلون رحلة الإبداع والعطاء الفني في مدرسة من أعرق مدارس الفطرة الإنسانية.
ومن نماذج مدرسة الفنون الفطرية المصرية التي شهدت أنجح وأرقي وأنفع مشروعات الأسر المنتجة التي لم تنظمها هيئة حكومية ولا تمولها منظمة اجتماعية تحس فيها بعبق التاريخ وعبير الحضارة هي محافظة قنا إحدي محافظات صعيد مصر, إذ بها عدد من الصناعات البيئية والحرفية المختلفة المتميزة.
وتبدأ رحلتنا مع هذه الصناعات في مركز ومدينة قوص, إذ بها أقدم معاصر الزيوت في جمهورية مصر العربية وهي ذائعة الصيت ليس علي المستوي الإقليمي ولكن علي المستوي العالمي أيضا حيث يعود تأسيسها إلي عام1190 هجرية. حينما تدخل إلي المعصرة تطالعك الأزقة التي تتنسم منها عبق التاريخ وتشعر بأريج التراث يتسلل من أنفك إلي رئتيك ليكسبك انتعاشا يصل بك إلي أقصي درجات النشاط والفضول في آن واحد. وحينما تصل إلي باب المعصرة تطالعك تلك الوجوه التي تألفها وتكون من كل طوائف الشعب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تشتري إنتاج المعصرة من زيوت وعطور, خصوصا زيت حبة البركة وتجد تناسقا عجيبا بين المكان والناس. أما المكان فيتميز بتصميم معماري بسيط ينقلك إلي القرن الماضي أو ربما الذي قبله, وتجد علي جدرانها بقايا من تاريخ كاد أن يندثر فهو يتكون من حجرتين الأولي واسعة يوجد بها دولاب لعرض المنتجات والحجر الذي يطحن الحبوب والبذور والذي يدور بواسطة بقرة, وأما الثانية فحجرة المكابس و الأبراش وقد تلونت أرضية الحجرتين بشتي ألوان الزيوت التي تنتجها المعصرة.
ثم ننتقل إلي حضن الجبل الذي جعل الفنان الصعيدي يشحذ زناد فكره ليخرج لنا أروع الأعمال النحتية علي الخشب, ففي حجازة قبلي بمركز قوص يوجد مركز تدريب جمعية الصعيد للتربية والتنمية في أعمال النحت والنجارة, الذي يعد نموذجا رائعا لتوظيف طاقات وإمكانيات البيئة المحيطة لخدمة الفن. و يعود تاريخ النحت في حجازه قبلي إلي عام1989 م وقد أدخله الراهب الفرنسي بطرس أيون, حيث كان أول من أدخل تلك الأعمال إلي قنا. بينما يعود تاريخ إنشاء المركز إلي وقت قريب وبالتحديد في عام2002 م. بفكر فرنسي وأيد مصرية خالصة وخامات جنوبية تكتظ بها بيئة الجنوب, استطاع الفنان الجنوبي أن ينحت أروع اللوحات الفنية الخشبية مستخدما موهبته الفطرية وطاقاته الإبداعية.
ثم إلي قرية جرا جوس بمركز قوص والتي تقع علي الضفة الشرقية لنهر النيل إذ يوجد بها أقدم مصنع لينافس العالم في صناعة الخزف اليدوي المتميز.
حينما تدخل إلي المصنع تطالعك البنايات التي تحكي تاريخ إنشاء هذا المصنع والذي يعود تاريخ إنشائه إلي حقبة تاريخية مضيئة من تاريخنا المعاصر, وهي حقبة الخمسينيات. تحدثنا تلك البنايات عن تاريخها علي لسان الفنان نصير رنان بخيت فيقول: إن المصنع تم إنشاؤه في عام1954 م وكان صاحب الفكرة الراهب الجزويتي اسطفان دي مونجلفييه, وبناه المعماري الشهير المهندس حسن فتحي صاحب تجربة العمارة الشعبية, وأخذ أربعة من الفنانين العمل بهذا المصنع حتي تبوأ هذه المنزلة علي مستوي الوطن بل ومستوي العالم.
وكل البنايات مبنية من الطوب اللبن لكي تلائم الصناعة التي أنشئت من أجلها هذه البنايات علي شكل يأخذ شكل القباب.
ويعود بنا رنان إلي الوراء ويقول لقد كنا نشتري الطن من الطين الأسواني( المادة الخام لصنع الخزف) بسعر25 جنيها للطن من القطاع العام, بعد استخراج تصريح موقع من رئيس الوزراء آنذاك ممدوح سالم, ثم يستيقظ علي الواقع المؤلم فيقول: إن سعر الطن قد تجاوز مبلغ أكثر من500 جنيه بعد خصخصة الشركة التي كانت تورد المادة الخام. وعن التسويق يتذكر رنان العصر الذهبي للمصنع حينما كان يعج بالسائحين الذين كانوا يأتون في أفواج إلي المصنع لكي يستمتعوا بشراء منتجاته. ولكن الآن توقفت حركة السياحة فاقتصرت حركة التسويق علي الزيارات الفردية للسائحين بالإضافة إلي المعرضين اللذين يقامان في شهري مايو وديسمبر بالقاهرة والإسكندرية. وعن المنتجات يقول الفنان فواز سيدهم سيفين إن المصنع كان في الماضي ينتج التماثيل للسائحين وكذلك أطقم الشاي والسفرة, أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبح المصنع ينتج الأطقم فقط ولذلك تقلص عدد العمال إلي أربعة يعملون علي فترتين الأولي تبدأ من الثامنة صباحا حتي الثانية عشر ظهرا, والثانية تبدأ من الثانية مساء وتنتهي السادسة مساء. وعن طريقة الإنتاج أخذنا فواز في جولة داخل المصنع الذي يتكون من ثلاث بنايات: الأولي منها للمعرض, والثانية لفرن الحرق, والثالثة لأعمال تشكيل الطين والرسم. حيث تبدأ طريقة التصنيع من مخزن الطين, حيث يوضع الطين في أحواض متصل بها برميل مثبت عليه موتور, يقوم بضخ المياه في البرميل الذي يتصل بثلاثة أحواض عن طريق مجري حتي يترسب الطين في الحوض وتتكرر هذه العملية لمدة خمسة عشر يوما, ثم يترك في الهواء حتي يجف من الماء ثم يقسم إلي مربعات ثم يؤخذ إلي مخزن الطين ويرش بالماء ويخرج من طاقة إلي حجرة التشكيل ويخلط الطين لمدة ساعة ثم يشكل إما علي هيئة تماثيل أو علي هيئة دوائر تتم علي دولاب, ثم يجفف حيث تقل نسبة الرطوبة في المكان بعشر درجات نتيجة ثلاجة صناعية عبارة عن حائط مفتوح من الخلف وتحته حوض ماء به قطع من الفخار ويغمر الحوض بالماء, ثم يتجه الإنتاج نحو الفرن ليحرق علي مرحلتين. المرحلة الأولي يخرج علي لون البسكويت, ثم يدهن ويرسم في حجرة الرسم ويرش ثم يعود إلي الفرن في مرحلة الحرق الثانية لتثبيت اللون في درجة حرارة ألف درجة مئوية, ثم ينظف من التراب ويعرض في المعرض تمهيدا لبيعه للجمهور.
ولقد حظي المصنع بزيارة ملك السويد في عام1986 م. ويظل هذا المصنع برغم المتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية شاهدا علي عبقرية الفنان المصري الجنوبي الذي وظف إمكانيات البيئة المحيطة في مجال الفن التشكيلي.
وعلي الدرب نزور مركز نقادة الذي يعد واحدا من أشهر مراكز محافظة قنا في إنتاج صناعة الفركة, وهي عبارة عن شال من الحرير المصنع يدويا والتي تمثل اعتقادا دينيا في بعض الدول الإفريقية بأنها تجلب البركة. ويقدر عمر هذه الصناعة بآلاف السنين تمتد إلي الفراعنة رأسا ويقال إنها كانت حكما علي المحكوم عليهم بالسجن أو الإعدام أيام الفراعنة نظرا لمشقتها وجلوس الصانع علي النول لساعات طويلة.
يطلق عليها الفركة أو كما يقولون أصحابها صنعة الستر لأنها تستر ولا تغني, وتتميز بأنها صنعة عائلية تمارسها الأسرة بجميع أفرادها في المنزل الريفي, المبني من الطوب اللبني.
وبالكشف عن أسرار هذه الصناعة العتيقة التي تمتد إلي أغوار الماضي السحيق.
يقول عماد عبده سيدهم مسئول العقود والمشتريات بالوحدة المحلية بقرية نقادة, إن صناعة الفركة تعد الصناعة الأولي بالمدينة حيث يبلغ عدد الأسر المشتغلة بهذه الصناعة600 أسرة بنقادة وقرية الخطارة وتوفر حوالي3000 فرصة عمل تبعا لمراحل الإنتاج أغلبهم من السيدات وكبار السن.
ويتذكر العصر الذهبي للفركة السودانية, حيث كانت تصدر إلي السودان وكان يقدر الإنتاج سنويا حوالي700 ألف قطعة فركة تقدر قيمتها حوالي أربعة ملايين دولار وكان عدد العاملين بها10000 أسرة بالمدينة والقري المجاورة وعدد الأنوال5000 نول, وكانت تجلب الخيوط من شركة إسكو وشركة مصر للحرير الصناعي بكفر الدوار أما الآن فتستورد الخيوط من الصين والهند, وتعتمد هذه الصناعة في أسعارها علي استقرار الأحوال الاقتصادية التي إذا كانت مستقرة كان دخل الأسرة من الصناعة حوالي300 جنيه شهريا, أما في حالة التغيرات الاقتصادية يقل دخل الأسرة إلي80 جنيها شهريا وقد توقف تصدير الفركة إلي السودان في نوفمبر عام1987 وانعكس ذلك علي الحالة الاقتصادية بالمدينة ويلتقط الأستاذ عبد اللاه زين العابدين مدير العلاقات العامة بالوحدة المحلية بمركز نقادة طرف الحديث فيقول إن هذه الصناعة تحتاج إلي مد يد العون من الشعبيين والتنفيذيين علي مستوي المحافظة للنهوض بتلك الصناعة, حتي يمكن رفع المعاناة عن هذه الفئة وللحفاظ علي هذه الصناعة التراثية عن طريق عودة تصدير الفركة السودانية مما يحقق حياة كريمة للمواطنين.
وعن جهود المحافظة في مجال الفركة, إنه تم تدريب40 شابا وفتاة من حملة المؤهلات المتوسطة لمدة ستة أشهر في عام2005 بمكافأة قدرها130 جنيها شهريا للمتدرب ووصلت تكلفة هذه الدورة التدريبية إلي100 ألف جنيه.
والمدينة تنتج الفركة الدرماني والسياحية والملاءة الإسناوي( الحبرة) بالإضافة إلي بعض أنواع الأقمشة مثل المبرد. ويضيف قائلا: إنه في الخمسينيات من القرن الماضي, كان يعمل بهذه الحرفة90% من سكان المركز حيث كانت تقام الأفراح في يوم التصدير, نظرا لأن المدينة تصبح خلية نحل ويدب في شرايينها النشاط.
وعن الخامات تقول- عفاف برنابة هارون صاحبة ورشة منزلية تتكون من ثلاثة أنوال أحدها لصنع الملاءة الإسناوي, والثاني للفركة الدرماني, والثالث للشال المنقوش- إن الخامات تتكون من خيوط حرير أو غزل( فبران) تستورد من الصين أو الهند أو خيوط من الصوف وتبلغ لفة الحرير(4 كيلو ونصف بمائة وعشرة جنيهات) وتصبغ, وهناك أيضا خيوط من القطن مصبوغة سعر الكيلو10 جنيهات وهي متوافرة في الأسواق.
وعن طريقة الصناعة تقول إنها تبدأ بصبغ الخيوط في إناء من الألومونيوم ويصبغ فيها10 كيلو في المرة الواحدة ثم تبدأ مرحلة لف الخيوط وتقوم بها السيدة وداد سدراك ناشد( أمها) وتبلغ من العمر70 عاما وقد أخذت الحرفة عن أجدادها وتعمل بها منذ60 عاما, ثم بعد ذلك مرحلة السدوة ثم بعد ذلك تلف الخيوط ثم تصل إلي مرحلة اللقاية, حيث تدخل الخيوط في النير وبعد ذلك في المشط ثم بعد ذلك مرحلة التصنيع بالمكوك علي النول, ومن العجيب أن المكوك به ريشة حمام صغيرة لا يتم العمل إلا بوجودها ثم بعد ذلك يعرض الإنتاج للجماهير.
وتقول كريستين برنابة هارون المتخصصة علي نول منتج القماش الشال المنقوش إنها تعمل من الثامنة صباحا وحتي الخامسة مساء وتصنع قماش المبرد وشال الكهنة, وتتقاضي عن ذلك أجرا زهيدا يقدر بحوالي6 جنيهات عن القطعة الواحدة.
وعن التغطية الإعلامية يقول فادي جاد الرب أبادير( تاجر) إن هذه الصناعة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة حيث سجلت بعض القنوات مثل دريم والراي والثانية والثامنة حلقات عن هذه الصناعة, كما أنه كان يفد علي المدينة وفودا سياحية من رومانيا للتعرف علي هذه الصناعة.
وعن تجارته يقول إنه يجمع الإنتاج من كل الأنواع ويقوم بتسويقها بالمدن السياحية مثل الأقصر وإسنا وأسوان وكوم امبو وإدفو والغردقة وشرم الشيخ.
فضلا عن صناعة السجاد اليدوي والتي تعتبر من أحدث الحرف التي أدخلت في نقادة, حيث اكتسبت المرأة ميزة الحرفية الفنانة لتثبت تميزها وتضاهي باقي الحرف لتنتج لوحه فنية للمناظر الطبيعية والتراثية والأشخاص واللوح الدينية المختلفة.
وصناعة سعف النخيل( الجريد) التي امتاز بها مركز نقادة في توافر الجريد والفنان الذي يبدع في تصميماته.
وصناعة الفخار اليدوي التي اهتم بها أبناء قرية الترامسة منذ القدم, إذ تدل التقنيات الأثرية التي أجريت علي أن صناعة الفخار كانت منتشرة منذ آلاف السنين, لوجود المواد الصالحة لهذه الصناعة, واحتياج السكان إلي الأدوات الفخارية في طهو الطعام وحفظ المياه, ومازالت هذه الصناعة موجودة في مناطق كثيرة داخل عدد من مراكز المحافظة, حيث استطاع أبناؤها أن يطوروا من الصناعة والاتجاه إلي إنتاج أوان غير تقليدية تجذب الجميع إليها.
وزراعة محصول قصب السكر في دشنا حيث أقيم العديد من المصانع والصناعات علي هذا المنتج ويقوم البعض بتصنيع العسل الأسود من قصب السكر وتقوم المحافظة الآن بتطوير المعاصر التي تنتج العسل الأسود وإحيائها لهذه الصناعة التي قاربت علي الاندثار.
ولما كانت الصناعات البيئية عنوان المحافظة وتاريخها وسر تميزها دعم اللواء مجدي أيوب محافظ قنا تلك الصناعات باعتماد مبلغ5.360 مليون جنيه من صندوق التدريب والتأهيل التابع لوزارة القوي العاملة والهجرة, وذلك لاستكمال الأعمال المتبقية لإعداد وتجهيز مركز التدريب المهني بقفط. كما أن المحافظة في هذا الإطار تقوم بعدة إجراءات منها: تقديم جميع التيسيرات للجمعيات التي ترعي مثل هذه الأنشطة من خلال مديرية التضامن الاجتماعي. وتقديم القروض من الصندوق الاجتماعي لمتدربين علي هذه الحرف لبدء مشروعاتهم الصغيرة الخاصة بهم, سعيا من المحافظة علي تطوير هذه الصناعات وازدهارها, كما يتم التنسيق مع بنوك التنمية لمنح قروض لتمويل هذه المشروعات. وتقوم المحافظة علي سبيل المثال بافتتاح المعارض المهتمة بفنون النحت والتشكيل في قاعات قصور الثقافة ومراكز الشباب المختلفة, كما يقام سنويا ملتقي الفخار تحت رعاية وزارة الثقافة والذي يضم أكبر الفنانين علي مستوي الجمهورية ويتم عرض لوحاتهم وترويجها من خلال هذا الملتقي.
وهكذا استطاعت محافظة قنا وعبر سنوات تتابعت فيها الأجيال الكشف عن مدي تمسك الفنان المصري بتراث أجداده, مهما تغيرت الأحوال وتغير الزمان لتظهر لنا الحكمة الإلهية وهي أن الإنسان ما خلق إلا ليعمر الكون ويكشف عما به من أسرار من خلال سبره لأغوار طبيعة تميزت بالعطاء منذ قديم الزمان
المصدر: الأهرام العربى
تفاعل مع الصفحة