دور الدولة في حماية الصناعات المحلية
فالتناقض الاساسي في هذه المرحلة كان تناقضا طبقيا بين جماهير الناس المستغلة (المجتمع) وبين طبقة الاقطاع من جهة اخرى أدت الى تعثر قيام صناعة وطنية رأسمالية. رغم ان الحكومة الملكية عام 1927 اجازت اعفاء اصناف معينة من المكائن والالات من الرسوم الجمركية تشجيعا للصناعة الوطنية الناشئة، كما يعتبر نوعا من الدعم والحماية يستفيد منه صاحب المشروع وفي عام 1929 صدر قانون تشجيع الصناعات فقد جاء اعمق واكثر شمولا حدد فيه نسبة العمال الاجانب في المشروع بـ(10%) وسمح بالغاء ضريبة الدخل لمدة 10 سنوات وكذلك الضريبة الجمركية على المكائن والمواد الخام لمدة (15) سنة ولمدة (10) سنوات ضريبة عقار ولمدة غير محدودة من ضريبة التصدير.
بعد زيادة عائدات النفط وما تشكله من امكانات مادية تستطيع ان تلعب الدور الحاسم في حل مشاكل البلد اقتصاديا (دفع الحكومة الى تأسيس مجلس الاعمار عام 1951 وتخصيص (70%) من عائدات النفط هذه لبرامجه )(التطور الصناعي في العراق).
وبعد قيام ثورة تموز 1958 وتمكن العراق من قراره السياسي والاقتصادي واستثماره ثروات البلاد خدمة للصالح العام فضلا عن الزيادة السكانية وارتفاع الاحتياجات الاساسية لمختلف السلع، تم تطوير العديد من الصناعات وانشاء العديد من الصناعات الاخرى.
وفي فترة السبعينيات شهدت الصناعة العراقية بمجملها نموا وتعددا في النوع والكم خصوصا بعد نجاح تأميم الشركات النفطية وزيادة اسعاره ما اسهم في دعم التوجه الصناعي وتوفير مستلزمات انتشاره ونموه واقامة المشاريع الكبيرة والحديثة في موازاة الصناعات الحرفية الصغيرة والمتوسطة. كما شهدت هذه الفترة توسعا في مشاريع الصناعات الستراتيجية الكبيرة ففي جانب صناعة النفط تم انشاء معمل البتروكيمياويات وفي الجانب التعديني معمل الحديد والصلب، فضلا عن تصنيع بعض المواد الاولية التي تحتاجها الصناعة القائمة. الا ان الحروب التي دخلها العراق وما تبعها من حصار اقتصادي ظالم نتيجة سياسة النظام السابق، اثرت بشكل كبير في مستوى انشاء المشاريع وتطويرها، فالحرب أدت الى تدمير الاقتصاد العراقي وبناه التحتية وعدم مواكبته ما يجري من تطورات على الساحة الاقتصادية العالمية اذ ان الموارد المالية والاقتصادية كانت موجهة لخدمة الحرب وديمومتها.
كما شهدت الفترة التي تلت انهيار النظام السابق وانهيار مؤسسات الدولة ذاتها تفجر التناقضات الاجتماعية وتفاقهما بشكل حاد. الى جانب ذلك فان ما يعانيه الاقتصاد العراقي يتطلب اجراء معالجات واصلاحات جذرية ذات بعد اقتصادي ـ اجتماعي وخاصة بعد ان اشتد الاعتماد على النفط مقابل انحسار القطاعات الانتاجية الاخرى، فاذا كان العراق بلد السواد بلدا زراعيا يعتمد الاستيراد في اشباع حاجاته من المنتجات الغذائية. فان الوضع الصناعي يكاد يكون اكبر بعد ان تعرض معظمه للتدمير والتخريب.. اما حال الصناعات الوطنية للمواد الاستهلاكية فما نجا منها من الدمار والتخريب سحقها الانفتاح التجاري واطلاق حرية الاستيراد.
سمات الصناعة العراقية
يمكن ملاحظة بعض السمات والخصائص التي تنعكس على الصناعة العراقية والتي تؤشر نوعا من الخلل ادى الى تشوهات في العملية الاقتصادية اثر سلبا في تكوين وتشكيل صناعة متينة قائمة على اسس ومعايير علمية منها:
1. الصناعة العراقية تبدو مزيجا غير متجانس او غير مترابط بالمفهوم العلمي الاقتصادي، اذ ما زالت تتعايش في الدولة الصناعات الكبيرة والحديثة ذات الطاقات الانتاجية الكبيرة والتي تنتج سلعا ضمن مواصفات قياسية مع صناعات صغيرة واحيانا حرفية تقوم في بعض الاحيان بانتاج سلع مثيلة لسلع المشاريع الكبيرة وبدون معايير علمية اقتصادية رصينة.
2. الافتقار لسياسة صناعية مرتبطة بخطط تنموية تتعامل مع افضل اساليب نقل وتطويع التقنيات الملائمة للبيئة العراقية.
3. غياب التنسيق بين الجامعات والمعاهد الفنية وبين المعنيين في الصناعة برفد سوق العمالة بالملاكات الفنية المؤهلة والضرورية وعدم تطوير اساليب التعليم والتدريب الذي ادى بدوره الى انخفاض الانتاجية الصناعية في العديد من فروع الصناعة العراقية.
التحديات التي تواجه
الصناعة العراقية
هناك جملة من العوامل ساهمت في عدم ظهور صناعة عراقية متطورة اهمها الوضع السياسي الهش وغير المستقر المتمثل في الانقلابات والتخطيط العشوائي غير المدروس كذلك الجانب الاقتصادي المتمثل بعدم القدرة على توفير المال اللازم لانشاء مشاريع صناعية كبيرة. كما ان طبيعة التحديات الداخلية والخارجية امور اعاقت ما كان مؤملا تحقيقه من الدولة العراقية في عملية النمو الاقتصادي والصناعي اذ كانت كل الدلائل والدراسات تشير الى ان العراق بعد التأميم مرشح في التحول الى دولة صناعية قبل كوريا والصين، لما يمتلكه من موارد مادية وبشرية تؤهله للقيام بهذه النهضة قبل (النمور الاسيوية)!!
ولكن رغم ما حققته الصناعة في العراق بداية السبعينيات من القرن الماضي الا انه لم يكن في اطار تنموي متكامل جعل منه تطبيقا مشوها تميز باللاتجانس ضمن القطاع التصنيعي الواحد (كما ان مصادر تقنياتها متعددة ولا توجد خطة علمية لتوطين التقنيات او توليد تلك التقنيات الاكثر ملاءمة لبيئات الانتاج). (العولمة واثرها في الاقتصاد العربي ج3، ص86). المختلفة، فضلا عن قلة تمويل المراكز البحثية، والصناعات التطويرية وعدم التنسيق بين الجامعات والمعاهد الفنية وبين المعنيين في الصناعة بقطاعيها (العام ـ الخاص)، الا ما جرى في نهاية التسعينيات في الدعوة الى (تعشيق) العمل بين المؤسسات العلمية (الجامعة) والصناعية والتوجه نحوها في دراسة جدوى المشاريع الانتاجية من خلال القيام ببحوث وما يتلاءم والواقع العراقي وحاجاته وتوفير المواد الاولية الداخلة في الصناعة لعدم قدرة الدولة على استيراد بعض المواد الوسطية الضرورية في الصناعة نتيجة الحصار الاقتصادي حيث جرت الدعوة الى تطوير بدائل لما متوفر من مواد محلية وكانت عملية ناجحة، دفعت العقل العلمي والصناعي في العراق الى الابتكار والابداع.
دور الدولة في المرحلة الراهنة
في المرحلة الراهنة يجب ان ينصب العمل على تجنيب المجتمع مصائب رأسمالية وحشية تحركها قوى السوق المنفلتة مؤكدين على توظيف قدرات الدولة لمعافاة وتنمية الاقتصاد الوطني وضمان مستوى معقول من العيش للمواطنين والتوزيع الجغرافي العادل للخيرات والذي من شأنه ارساء اساس مادي لبناء نظام ديمقراطي كخيار لا غنى عنه. يتطلب هذا وضع برنامج اقتصادي مشروط بظروف المرحلة الراهنة والذي ينبغي فيه التركيز على المشاكل والمهمات الاقتصادية الملحة والسعي لحلها وفق مصلحة اوسع فئات الشعب.
ان النتائج العملية للسنوات الثلاث الماضية تستدعي من الدولة اخذ دور اساسي في تنويع القاعدة الانتاجية في البلاد ورسم سياسة صناعية تهدف الى ارساء قاعدة صناعية تتسم بالكفاءة والقدرة التنافسية من خلال:
1. وضع ستراتيجية وطنية حول اتجاهات التطور التنموي الصناعي في العراق تأخذ بالحسبان الصناعات المحلية وعملية دعمها وتطويرها وتقديم القروض المالية لاعادة تأهيلها.
2. تأشير التشوهات في البنية الاقتصادية الصناعية ومعالجتها.. من خلال برامج رفع الكفاءة الانتاجية والادائية لتلك المشاريع .
3. ضمان دعم الدولة للمشاريع الصناعية ذات الاستخدامات التكنولوجية العالية ومتطلباتها التمويلية الكبيرة وخصوصا في المجالات التي يتمتع بها العراق بمزايا نسبية كقطاع النفط.
4. تشجيع مبادرات القطاع الخاص واعتماد سياسة وتسهيلات ضريبية تمييزية للمشاريع التي تدخل تقنيات حديثة وجديدة تسهم في استخدام وتصنيع المواد الاولية والخامات المحلية والارتقاء بمنتجاتها لمستوى المنافسة الخارجية.
5. المطالبة باعادة النظر بدمج المصارف المتخصصة.. ببنك الرافدين، ودعم المصرف الصناعي وتعزيز رأسماله وايجاد صناديق استثمارية متخصصة في تمويل المشاريع الصناعية.
6. اعادة النظر بالتوزيع الجغرافي للمؤسسات الصناعية بما يكفل تلافي التفاوت الملحوظ في مستويات المناطق الجغرافية بسبب السياسات السابقة وتحقيق تنمية متوازنة تتيح ضمان العدالة والعقلانية.
7. رسم سياسة واقعية للمحافظة على الملاكات العلمية والتقنية والمهارات وبما يجذب الملاكات التي غادرت العراق.
المصدر: موقع جريدة الصباح
تفاعل مع الصفحة