إحياء بنوك الادخار.."لسه الأماني ممكنة"

"كان مشروع بنوك الادخار المحلية مشروعا فريدا، متعمقا وأصيلا، ومحكما فنيا.. خطا نحو أنواع جديدة من المشاكل تتطلب مهارات ابتكارية لمعالجتها، وهذا جعل المشروع نموذجا وآية غاية في الروعة لعلاج مشكلات التنمية"، تلك هي الكلمات التي تضمنها تقرير نشر بأواخر ستينيات القرن المنصرم بمجلة إنترناشيونال ريفيو عن بنوك الادخار المحلية.[1]

أسس الدكتور أحمد عبد العزيز النجار تجربة بنوك الادخار في مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بمصر عام 1963، واستمرت تعمل حتى عام 1968، حيث دهسها بلدوزر النظام الحاكم في مصر، ولو قدر لهذا البنك أن ينمو في مناخ حر لكان له شأن كبير في التنمية الاجتماعية / الاقتصادية، لكن الأماني لا زالت ممكنة، والظروف التي يعيشها العالم حاليا في ظل أزمته الاقتصادية والمالية تجعل من التجربة طوق نجاة للملايين من بسطاء الناس في العالم.

بنوك بلا فوائد

لا تقل تجربة بنوك الادخار روعة عن تجربة بنك جرامين أو بنك الفقراء إن لم تفقه، فهي ليست كالبنوك الإسلامية مجرد "بنوك رأسمالية منزوعة الربا"، محكومة بأنظمة البنوك المركزية، أو تستثمر أموالها في الخارج، أو على الأقل ليس لها أي تأثير تنموي على القطاعات العريضة من جماهير الشعوب، فبنوك الادخار المحلي ذات صبغة اجتماعية تنموية محلية لا لبس فيها، وهي إضافة إلى ذلك بنوك لا تتعامل بالفوائد الربوية، وهي السمة الأبرز التي من شأنها أن تمنح تلك البنوك أو صناديق الادخار قبولا لدى القطاعات العريضة من جماهير المسلمين، ولو أحسنت الدعوة لنموذجها لأصبحت عاملا منقذا للاقتصاد العالمي من أزمته.

في كتابه "بنوك بلا فوائد" [2] يقدم "بطل" التجربة الدكتور "أحمد عبد العزيز النجار" [3]  نموذج بنوك الادخار المحلي في إطار رؤية اجتماعية واقتصادية متكاملة تتشابه في كثير من جوانبها مع رؤية البروفيسير محمد يونس "بطل" بنك الفقراء وإن اختلفت التجربتان في مداخلهما لحل معضلة التنمية في بلدان العالم النامي، ومن ثم اختلفت بعض تفاصيل النموذجين.

بنوك الادخار المحلية

يتكون نظام بنك الادخار من ثلاثة أنواع من الحسابات، ونوعين من القروض، أما الحسابات فهي:

حساب الادخار: والحد الأدنى للوديعة فيه هو خمسة قروش (كان ذلك عام 1963)، والسحب منه عند الطلب، ولا يدفع البنك فائدة عن الودائع في هذا الحساب.

وحساب الاستثمار: والحد الأدنى للإيداع في هذا الحساب جنيه واحد (عام 1963)، والسحب منه سنوي، ويشارك المودعون في هذا الحساب البنك في عائد استثماراته تبعا لحجم الوديعة ومدتها.

إضافة إلى صندوق الخدمة الاجتماعية: وتتكون حصيلة هذا الصندوق من التبرعات التي يقدمها الأفراد طواعية للبنك، وتستخدم حصيلة هذا الصندوق كتأمين ضد الكوارث التي قد تصيب المودعين.

أما القروض فهي إما قروض غير استثمارية، حيث يرد المقترض أصل المبلغ دون أي فوائد، ويقدم البنك هذه القروض لاستخدامات المدخرين، أو قروض استثمارية وتسمى أيضا قروضا بالمشاركة: وهي التي يشارك البنك المستثمر بها في رأس المال، وفي نسبة الغنم والغرم، كل بمقدار نصيبه، وبشكل عام فإن الضمان الشخصي يكاد يكون هو الضمان الوحيد الذي يطلبه البنك للحصول على تلك الأنواع من القروض، ويشترط أن يكون استثمار الودائع في نفس المنطقة المحلية تحت سمع وبصر الأهالي.

ويتضمن هذا النظام أساسين جوهريين لا غنى عنهما:

الأساس الأول هو اللامركزية: فمستقبل التنمية الاجتماعية مرتهن بمدى توافر عنصر اللامركزية في إدارة المؤسسة التي تتصدى لها، وذلك بناء على شعور الرضا المتولد لدى الناس من إحساسهم بالاهتمام بمنطقتهم المحلية (القرية أو الحي)، كما أن قصر خطوط الاتصال وسرعتها وواقعيتها في نظام البنك تؤدي إلى انتقالهم من السلبية إلى الإيجابية، إضافة إلى ذلك فإن اللامركزية تؤدي إلى تحقيق نمو متوازن في تطور المجتمع، واستغلال أمثل للطاقات البشرية والمادية للمجتمعات المحلية، وهي تغري قاطني المناطق المحلية بالاستمرار فيها، كما أنها تخفف العبء الملقى على الخطة العامة للدولة، وتحقق التوعية الفعالة الناتجة عن الاتصال المباشر الحي، وهي تساهم في التعرف على الدوافع والأنماط السلوكية واستخدامها لمصلحة النظام، والتعرف على الاتجاهات وإزالة الصعوبات التي تعترض التربية الائتمانية، وكذلك تحقق متابعة أفضل للقروض الممنوحة وضمان سدادها وحسن استخدامها ورؤية الآثار الاجتماعية الناتجة عنها، كما أنها تؤدي إلى صلات دافئة بين العاملين والجمهور.

الأساس الثاني هو المشاركة: كبديل ممكن عن سعر الفائدة في عالم الاقتصاد، وقد تم الأخذ به في البنوك استنادا على 3 اعتبارات:

نفسية: عقد الإقراض هو الأقرب للاتجاهات العقلية للإنسان العربي والمسلم، وهو الأقرب إلى العدالة.

اقتصادية واجتماعية: اختلف الاقتصاديون حول ضرورة سعر الفائدة ونسبتها، أما المشاركة فهي تعاون يضاعف القوة الإنتاجية، كما أن المشاركة عدالة في توزيع العائد، والمشاركة تجعل البنك يضع علمه وخبرته لإنجاح المشروعات، والمشاركة والمحلية تحققان للبنك التكيف مع التغيرات الهيكلية للاقتصاد المحلي.

فنية: المشاركة تحقق التربية الائتمانية لجماهير القاعدة بنجاح.. إن عائد المشاركة أوفر من عائد سعر الفائدة مما يسهم في تغطية المصاريف الإدارية في وقت قصير.

فلسفة كامنة

ينبني نموذج بنوك الادخار المحلية على فلسفة تعتمد على عدد من الخصائص، فكما يرى الدكتور النجار فإن أي نموذج تنموي لابد أن يكون مستمدا من التركيب الأصلي للمجتمع ومشتقا منه، وأن يكون على بصيرة ووضوح في أهدافه، ووعي عميق في نفس الوقت بخصائص الواقع، وأن تكون في يديه الأدوات التي يستطيع بها أن يحرك الواقع لصالحه بطريقة مجدية ومؤثرة في المجتمع.

بنى الدكتور النجار فرضيات نموذجه على أن الدين يعتبر في العالمين العربي والإسلامي عاملا حاسما ومحددا للسلوك، ومن ثم لا ينبغي أن نغفل أثره بالنسبة لجميع أوجه النشاط والمشروعات، وأن النقود سلاح مهم وخطير في نفس الوقت في علاقته بالسلوك، فهي القنطرة الموصلة بين الحاجات والرغبات من ناحية، وبين السلع من ناحية أخرى، أو بين الحياة الكريمة ووسائلها.

ويهدف النموذج إلى تعبئة الجماهير الإسلامية لتشارك مشاركة إيجابية وفعالة في عملية تكوين رأس المال، وذلك من خلال عمل البنوك كوسيط بين عرض المال وطلبه، ومركز للتربية الاقتصادية، ووسيط نشط وفعال للقضاء على الصعوبات التي تعترض تكوين رأس المال.

كما تنبني رؤية البنك على أن هناك عقبتين رئيسيتين أمام نجاح النماذج التنموية التي يراد تطبيقها في العالم النامي، أولها الإنسان الذي يتسم بالعفوية واللامبالاة والسلبية والأنانية والنمطية والرتابة، واعتبر أن تغيير تلك السمات من أصعب الأمور، أما ثاني تلك العقبات فهي الناحية التنظيمية، حيث إن دور التنظيم في النماذج التنموية المطروحة في العالم النامي يقتصر على الربط بين كل مشروع على حدة وبين الهيكل الاقتصادي ككل من ناحية أخرى، سواء من ناحية الوقت أم من ناحية الكم، ولا يمتد إلى التنسيق بين مراحل التنفيذ وخطواته في القطاعات المختلفة.

ومن ثم فقد عمل د. النجار في تصميمه لنموذج بنوك الادخار المحلية على تجاوز تلك العقبات من خلال التربية الادخارية، وتعني إرشاد الأفراد إلى طرق إنفاق دخولهم بالطريقة التي تعود عليهم وعلى المجتمع بالنفع، والتربية الائتمانية ويراد بها تدريب المواطنين على طلب واستخدام القروض لتحقيق إنتاج أكبر وثمرة مضاعفة، إضافة إلى التغلب على أية صعوبات تعترض نشاط الاستثمار.

بنوك الادخار وبنك الفقراء

بين تجربتي أحمد النجار ومحمد يونس مشابهات ومفارقات، فمن باب المشابهات نظريتهم النقدية لأنماط ونماذج التنمية والاقتصاد القائمة، فكلاهما ينتقد نماذج التنمية التي تنبني على المشروعات الكبرى بغض النظر عن استفادة عموم الناس منها، فالنجار ينتقد قلة الموارد المالية المرصودة للتنمية المحلية، والاعتماد على المشاريع الضخمة على حساب الصناعات الحرفية الصغيرة على الرغم من أهميتها، والاتجاه العام نحو المشروعات كثيفة رأس المال، في مقابل الابتعاد عن المشروعات كثيفة العمالة، وقد رأى أن تجربته تصحح تلك الأوضاع.

كما أن كليهما رأى في سلوكيات الفقراء وبسطاء الناس جوانب تعوق التنمية وتحتاج إلى علاج، وكلاهما اتخذ من نموذجه وسيلة لتحقيق ذلك، حتى أن النجار اعتبر أن الآثار الاجتماعية للتجربة أهم من غيرها من الآثار (الفنية والاقتصادية)، وقد رأى تلك الآثار في تعبئة سكان الريف وتحويلهم إلى الإيجابية بدلا من السلبية واللامبالاة والاتكالية، وتجنب الآثار السلبية الناتجة عن هجرة أهل الريف، وتعريض (أو توسيع) قواعد الملكية بين الفئات الضعيفة اقتصاديا، وربط المثقفين بالجماهير من أجل التنمية والإنتاج بدلا من الإيديولوجيات المستوردة.

كلاهما بنى نموذجه على أساس مشاركة المستضعفين والفقراء في حل مشكلاتهم بالجهد والمال، وكلاهما رأى في القروض الاستثمارية والتنمية المحلية كسرا لحلقة انقسام المجتمع إلى نخبة مترفة وقاعدة واسعة مهمشة، وكلاهما ألغى الضمانات التي تطلبها البنوك التجارية واعتمد على أشكال أخرى من الضمانات يستطيع الفقراء توفيرها، وتعتمد في بنوك الادخار على الضمانات الشخصية، وعلى صفة اللامركزية والمحلية.

كلاهما قصر الحصول على القروض على الأعضاء (في بنك الفقراء) أو على المدخرين (في بنوك الادخار المحلية)، وزاد عليها الأخير أنه اشترط أن المدخرات المتجمعة من المنطقة ينبغي أن تستثمر في نفس المنطقة وليس خارجها.

ومن المفارقات أن تجربة بنك الفقراء أخذت وأعطت فوائد للأعضاء / المقترضين، بينما جعلت بنوك الادخار المحلية التعاملات (مدخرات وقروض) بلا فوائد، وجعلت المشاركة بديلا لتغطية المصاريف الإدارية، ومن المفارقات أيضا أن تجربة يونس كتب لها البقاء والنمو والعالمية، بينما كتب على تجربة النجار قصر العمر، ورغم النمو في هذا العمر القصير فلم يعصمها ذلك من أن توأد حية.

الأمل في الإحياء

لا شك أن تجربة النجار يمكن أن تحيا لأنها تعتمد بشكل أساسي على اللامركزية والمحلية، ومن ثم يمكن أن تطبق في محلة واحدة (قرية أو حي) في شكل صناديق ادخار محلية، ولا شك أنها ستكون أكثر قبولا من بنك الفقراء، وذلك من الناحية النفسية، خاصة في وسط الجمهور المسلم، إلا أنها يمكن أن تكتسب الصفة الإنسانية والعالمية التي تحققت لبنك الفقراء لو أنها نجحت في تقديم نماذج ناجحة من الناحية الإدارية والاقتصادية والتنموية تغري بنقلها إلى مجتمعات أخرى لا يشترط أن تكون مسلمة.

كاتب وخبير متخصص بالقضايا التنموية بالعالم العربي.

[1]  - طالع التعليق في: توفيق محمد الشاوي، اقتصاد المستقبل تجربتي في الاقتصاد الإسلامي وقصص عن البنوك الإسلامية، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولى، 1993، ص 144.

[2]  - أحمد عبد العزيز النجار، بنوك بلا فوائد كإستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الإسلامية، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1984.

[3]  - أستاذ الاقتصاد الإسلامي، والأمين العام للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، وعميد المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي.


منقول من: اسلام أون لاين


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة