مآثر شامية في الفنون والصناعات الدمشقيَّة

سوريا - تختلف خامات ومواد ومهام الفنون والحِرف الشعبيّة التقليديّة من بلد إلى آخر، ومن زمن لآخر أيضاً، لارتباطها الوثيق، بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الحضاري للبلدان التي تظهر فيها. ولكونها في الأساس، وُجدت لتلبية حاجة ماديّة بحتة ترتبط بحاجات الإنسان اليومية، طغت عليها هذه السمة، وظلت لصيقة بها، حتى في أرقاها فناً وصنعةً وجمالاً.

شكلّ الخشب، والحجر والمرمر والخزف والفخار والعاج والمعادن المختلفة والنسيج وغيره، القاعدة الأساس التي نهضت عليها المشغولات الحِرفيّة، منذ قيام الإنسان لأول مرة بصنعها وحتى اليوم، وهي متداولة بكثير من الحرص والاعتزاز في حياة الناس، كونها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من بيوتهم وأماكن عملهم، عدا عما تحمله من رموز وقيم ودلالات فنيّة وإنسانيّة رفيعة. فهذه الفنون والمشغولات نتاج حر عفوي لروح منتجيها وبيئاتهم، واختزال صادق لجوانب هامة من تراث شعوبهم وقيمها وتقاليدها وتاريخها، وهي في خلاصتها، فن حقيقي متماهٍ بالحرفة، تقوده الحاجة أحياناً، ويقود هو الحاجة أحياناً أخرى. وهي بموادها وخاماتها وطرائق معالجتها، تعكس بأمانة، البيئة الطبيعيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي جاءت منها.

حاجات مُصعّدة بالفن: فالمجسمات الفراغيّة المنفذة من الخشب وجذوع الشجر، يوضع منها عبق الغابات ممزوجاً بحداء الأزاميل والأيدي الماهرة. والمنسوجات المغزولة بأناة وصبر، تكتنز همسات السنانير والإبر وتداخلات الخيطان الملونة المجدولة لحمة من القلب، وسداة من الأمل في تحريك الجمال في حياة إنسانيّة ريفيّة ضجرة، يجب ألا تسكنها رتابة العادي، ولا برودة التكرار وملله. لقد جاءت السجاجيد والحرامات والمنسوجات بشكل عام، لتلبية حاجات استعماليّة محددة منها رد غائلة البرد عن الإنسان، ثم طاولها الفن فجملها وزيّنها ولوّنها، لكن دون أن تفقد مهمتها الاستعماليّة الأساسيّة التي وجدت من أجلها. وهذا ما ينسحب على باقي المشغولات من صناديق وعلب متعددة الاستعمال وشمعدانات وفوانيس وكؤوس وقدور وملاعق وأوان ومشاجب ومرايا وكراسي وأدوات زينة وثياب... الخ. عملية التزويق والتجميل التي أسبغها الفن على هذه المشغولات، جاءت هي الأخرى، تلبية لحاجة مستجدة في النفس البشريّة هي استنهاض الجمال في الأشياء حولها وتمتعها به.

اختلاف النظرة: المشغولات التي تندرج تارة تحت مصطلح (الحرفة) أو(الصنعة) أو(الفن التطبيقي) أو(الفن التقليدي) أو(الفن الشعبي)، وصل بعضها إلى مدارج التحف الفنيّة الرفيعة والنادرة، بما تحمل من إعجاز في الصنعة، وبراعة في التصميم، ودقة في الإنجاز، ما جعلها باهظة الثمن، بدليل العدد الكبير من هذه التحف المنضدة في أروقة المتاحف، وصالات العرض، وبعضها يتجاوز ثمنه ملايين الدولارات. رغم هذا، هناك من ينظر إليها على أنها مجرد حرفة عادية لا ترقى للوقوف جنباً إلى جنب مع الرسمة أو اللوحة أو التمثال، ويحاربون وجودها في أروقة المتاحف، وعاء الأمة الحضاري، مدعين أن مكانها الطبيعي، الحياة الشعبيّة التقليديّة، في القصور والدور الكبيرة التي صُنعت من أجلها، إذا كانت من النوع الراقي والبديع والثمين، وفي البيوت العاديّة، إذا كانت من الصنف البسيط والرخيص.

التراث الحقيقي

في مقابل أصحاب هذه النظرة المستخفة بالمشغولات الحِرفيّة التقليديّة، هناك من يرى أن التراث الحقيقي والأصيل للأمة، لا ينقطع، بل يستمر في الحياة الشعبية، في الإنسان وعاداته وتقاليده وتفكيره وبيته وأشيائه اليوميّة. وهؤلاء عندما يقفون هذا الموقف، يؤكدون أن الحياة الشعبيّة لم تضح بالتراث، بل هي التي احتضنته، وكانت الرحم الحنون لاستمراره وتطوره، وما نزوعات الإنسان الشعبي الدائمة، لتزويق وتزيين وتجميل بيته وموجوداته المختلفة سوى إشارة أكيدة لهذه الحقيقة، وأي فن حديث لا يستند إلى هذا المفهوم، لا يمكنه الاستمرار والوصول إلى المستقبل، إنه في هكذا حالة أشبه ما يكون بساقية انفصلت عن النبع.

هذه الحرف والفنون والصناعات، المنتجة تحديداً في الديار الشاميّة، شكلت مادة كتاب صدر مؤخراً في دمشق للباحث منير كيال تحت عنوان «مآثر شاميّة في الفنون الدمشقية»، وهو دراسة ميدانيّة توثيقيّة تقع في 384 صفحة موزعة إلى ثلاثة أبواب وأحد عشر فصلاً، طاف من خلالها الباحث، على منشئها وجذورها وتاريخها وانتشارها وأبرز مراكزها ومكانتها العالمية وموادها وخاماتها وأنواعها ومجالات استخدامها وعلاقتها بالعمارة وأبرز المشتغلين فيها، مستشهداً بنحو 130 صورة ضوئية ورسمة.

مؤكداً من خلالها ومن خلال النصوص المرافقة لها، على اشتهار مدينة دمشق بصناعاتها التقليديّة منذ القِدم، وعلى دور التمازج الحضاري بين أبنائها والفاتحين العرب، في طبع هذه الصناعات بالطابع الإسلامي، مع الحفاظ على أساليب كل هذه الصناعات، ومن ثم تلاؤم هذه الصناعات مع معطيات الزمان والمكان والأذواق والحاجات الآنية، الأمر الذي ميزها عن غيرها من الحرف والصناعات والفنون التقليديّة، في أنحاء العالم كافة.

ان هذا التوثيق المعاصر يعد استكمالاً لمهمة فنيّة وعلميّة وطنيّة، كان قد بدأها الباحث كيال، حول الفنون والصناعات والحرف اليدويّة الدمشقيّة، وأخذت طريقها إلى كتاب صدر عن وزارة الثقافة السورية مطلع العقد السادس من القرن العشرين، رصد فيه جذور هذه الفنون والصناعات، وبيّن خصائصها وطابعها الإسلامي، وتوزعها الجغرافي، بل وتطورها وحالات استخدامها، على مدى العصور، وصولاً إلى تحديد مكانتها في الحياة المعاصرة، سواء في العمارة الداخلية (الديكور) والخارجيّة (التصميم) أو في تزويق وتجميل قطع الأثاث والحاجات الاستعماليّة اليوميّة، في المنازل والمكاتب والمضافات والمطاعم وغيرها من الأماكن والمجالات التي يصرف فيها الإنسان عمره وحياته.

ان نشوء الصناعات التقليدية الدمشقية وجذورها وسمتها الإسلامية وأنواعها، وربطها بالأحداث الهامة التي عاشتها دمشق، كنكبة تيمورلنك، والحروب الصليبيّة، والعدوان الثلاثي على مصر، وأحداث لبنان أخذت وقتاً كبيراً من الباحث كيال، ثم يتوقف عند انتشارها ومراكزها ومكانتها العالمية وطرق نقلها إلى الدول الأخرى.

بعدها يلقي الضوء على أنواعها، فيتحدث عن صناعات الغزل والنسيج وزخارفها وخصائصها ومراحل تصنيعها والأزمات التي واجهتها. وفي هذا المجال، يتحدث عن «البروكار» و«الداماسكو» و«الألآجا» و«الديما» و«الأغباني».

ثم يتناول الفخار والخزف والزجاج والصناعات المعدنيّة والحلي والمجوهرات والصناعات الخشبية، ويتقل لاحقا إلى تناول فن العمارة والبناء في دمشق، فيتحدث عن القصور والدور الدمشقية وأقسامها وتفصيلاتها، ويسوق مثالاً عليها قصر أسعد باشا العظم الموجود في سوق «البزوريّة» بدمشق القديمة. بعد ذلك، يتوقف عند الخط العربي وتحولاته ومراكز تجويده ومدارسه وخصائصه وأقلامه الأساسية الستة وهي: الثلث، النسخي، الإجازة (التوقيع)، الرقعة، الديواني الهمايوني والفارسي وانتهى إلى مدرسة دمشق للخط العربي.

بعد استعراضه لأنواع وخصائص الفنون والصناعات الدمشقيّة، يتوقف الباحث كيال كذلك عند المشتغلين فيها ليشير إلى تقاليد مشيخة الكار ومراتبهم وألقابهم كشيخ المشايخ (النقيب) وشيخ الكار (الشاويش) والمعلم، والصانع، والأجير، والكيفيّة التي تتم من خلالها، ترقيتهم إلى المرتبة الأعلى وشروطها.

تحدي الآلة

ان «ميكنة الحرف والصناعات التقليديّة»، وهذا الأمر لم يقتصر على الصناعات والحرف والفنون السوريّة، وإنما يطاولها في دول العالم كافة، لأن الآلة لم تستطع رغم جميع الفتوحات التي حققتها في مجالات الحياة الحديثة، أن تكون ذواقة بذاتها، فالإنسان وراء منجزاتها، فهو أسمى منها، وعقله فوق كل اعتبار، وقد عجزت الآلة أمام مشاعره وفكره وحريته.

الآلة نجحت في الكم، وقدمت أعداداً كبيرة لأنموذج واحد، ولولا إبداعات الإنسان لكانت جماداً لا حياة فيه. لقد استطاع الفنان الدمشقي في حرفيته تحدي الآلة في عطاءات قدمتها الأيدي التي زخرفت بيوت وقصور ومؤسسات رسمية كثيرة في دمشق، منها لجنة مياه عين الفيجة، قبة مجلس الشعب، والقاعة الشامية في متحف دمشق الوطني.

أصول واحدة

تنتمي المشغولات اليدوية الشعبيّة لأصول واحدة، وهي تتشابه هدفاً وشكلاً، لدى غالبية شعوب العالم، غير أنها تختلف في موادها وخاماتها وطرائق معالجتها، من بيئة إلى أخرى، وقيمتها الأساسية تأتي من كونها يدويّة وفريدة، غير أن الطلب المتزايد عليها، أدخل الميكنة إليها، كلياً أو جزئياً، ما قلل من قيمتها الماديّة والفنيّة والاعتباريّة. فالجهد الفني الإنساني الرفيع والخبير، الذي كان يرتمي مباشرة في هذه المشغولات، مانحاً إياها إحساساً خاصاً، قضمته الآلة الباردة، وأعطبت جانباً منه.

الحياة الشعبية

أن التراث الحقيقي والأصيل للأمة، لا ينقطع، بل يستمر في الحياة الشعبية، في الإنسان وعاداته وتقاليده وتفكيره وبيته وأشيائه اليوميّة. وهؤلاء عندما يقفون هذا الموقف، يؤكدون أن الحياة الشعبيّة لم تضح بالتراث، بل هي التي احتضنته، وكانت الرحم الحنون لاستمراره وتطوره، وما نزوعات الإنسان الشعبي الدائمة، لتزويق وتزيين وتجميل بيته وموجوداته المختلفة سوى إشارة أكيدة لهذه الحقيقة.

منقول من موقع "البيان"


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة