الاقتصـاد في حيــاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
وشدد الدكتور عويس ـ في دراسته التي تنفرد "الرابطة" بنشرها ـ على أن خبرة الرسول صلى الله عليه وسلم التجارية المستمرة في مكة قد أعانته كثيرا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية، مشيرا إلى أن إنشاءه الأسواق خاصة في المدينة في مواقع متميزة من الأدلة الساطعة على ذلك.
وقد تناولت الدراسة مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتصادية في كل من مكة والمدينة، مشيرة إلى أن علاقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرعي والتجارة بدأت مبكرة تأثرا بالبيئة التي نشأ فيها. كما أن السمعة التجارية الطيبة للرسول ولقبه "الأمين" جعلا السيدة خديجة تختاره للتجارة ثم الزواج.
وأوضحت الدراسة أن الإخاء الإسلامي الذي قدم الأنصار والمهاجرون أروع نماذجه كان تطبيقا لتوجيهات القرآن والسنة.
كما أوضحت الدراسة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في القضاء على نزعة احتقار بعض المهن والحرف والظواهر التجارية المدمرة للمجتمع.
وأبرزت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الديون في صكوك حتى لا تصبح الحركة التجارية عرضة لتقلبات النفوس والأهواء.
وفي السطور التالية نتعرف على أهم ما جاء في الدراسة.
من المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في مكة، المدينة التجارية الكبرى في جزيرة العرب، إلى جانب أنها المدينة المقدسة.. وكانت لقريش رحلتان ثابتتان.. إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ، والثانية بالصيف إلى الشام.
ولما جاء هاشم بن عبد مناف سيد قريش أمر بنوع من التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين قريش كلها غنيها وفقيرها حتى اقترب غنيهم من فقيرهم، وظهر الإسلام وهم على ذلك، وبالتالي فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش.
وفي هذه البيئة ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أمرا طبيعيا أن ينزع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى "الرحلة" بعد أن كان يرعى الغنم في صغره، ومن الوقائع الثابتة أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مع قوافل قريش عندما كان عمره يتراوح بين التاسعة والثانية عشر، وذلك حين تعلق بعمه أبي طالب حين أزمع السفر إلى الشام للتجارة، فأخذه معه في الرحلة التي التقى فيها أبو طالب بالراهب بحيرا الذي تنبأ برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وخشى عليه من اليهود لو عرفوه، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.. وهكذا نرى أن صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعي تارة وبالتجارة تارة أخرى بدأت معه عليه السلام بداية مبكرة تأثرا بالبيئة التي يعيش فيها.
لكن الحدث التجاري الفاصل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقع حين لجأت خديجة إلى محمد بن عبد الله تستأجره ليضارب في مالها بعد أن بلغها الكثير من صدق حديثه وأيضا لأمانته وكرم أخلاقه، فلهذا عرضت عليه _كما يقول ابن إسحاق _ أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يسمى ميسرة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وخرج في مالها ومع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، فاشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة الذي حكى عن أمانته وتوفيق الله له ما شاء أن يحكي، ورأت خديجة أيضا أن أرباحها ضوعفت فرغبت فيه زوجا، وكانت أسن منه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على ذلك منها لو قدروا عليه، وكانت له نعم الزوج.
سمعة تجارية طيبة
إننا نستخلص من تحليلنا لسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم التجاري والاقتصادي أنه صلى الله عليه وسلم تعلم التجارة منذ الصغر، وان سمعته التجارية الطيبة ولقبه الأمين جعلا السيدة خديجة تختاره للتجارة أولا، ثم تختاره زوجا ثانيا، فأمانة الإنسان سبيل نجاحه وهي أهم رأس مال يستثمره الإنسان في التجارة، فإذا اجتمع مع الأمانة الصدق _ كما اجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم _ توافرت الأرضية التجارية السليمة، فإذا أضفنا إلى ذلك ذكاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقوته ومهارته، أي جمعه صلى الله عليه وسلم بين القوة والأمانة والصدق، تحقق النموذج المثالي الذي يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ".
ومما نستخلصه من هذا التحليل أيضا: الإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بنفسه على أهمية العمل، وها هو أمامنا قد عمل قبل الرسالة في الرعي والتجارة، وها هو بعد الرسالة يعمل في بناء المساجد، وفي حفر الخندق وفي جمع الحطب، ويعمل في خدمة أهله.
وبما أننا نميل إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له نوع إشراف على تجارة خديجة بعد زواجه منها، وأنه لابد أن يكون له حضوره _ إشرافا وتوجيها ومراقبة _ فلهذا نؤمن بأن خبرة الرسول صلى الله عليه وسلم التجارية المستمرة في مكة قد أعانته كثيرا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية، ونحن نعد إنشاءه الأسواق خاصة في المدينة في مواقع متميزة من الأدلة على ذلك.
كما أننا نعد تنظيمه صلى الله عليه وسلم لأسلوب التكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ _ الذي يضم أصحاب البلد بثرواتهم ووافدين بلا ثروات وليس لهم إلا خبراتهم السابقة _ من أقوى الأدلة على عبقريته الاقتصادية، يضاف إلى ذلك تقديره لقيمة العمل الحرفي واليدوي (الزراعي والصناعي) وفسحه المجال أمام المرأة المسلمة ليكون لها حضورها في بناء الاقتصاد الإسلامي.. إنه الوحي الصادق.. مع العقل الواعي.. ومع الخلق الزكي الراقي!!
خصائص الاقتصاد الإسلامي
إن من خصائص الاقتصاد الإسلامي التي تتفرد بها نظرته هي أن الملك كله والمال كله لله سبحانه وتعالى، وليس للإنسان من الاستخلاف في هذا المال إلا ما يجنيه _ بعمله وسعيه _ من صالح الأعمال المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية.
كما أن من خصائصه وجود حق معلوم في المال لغير مالكه، فالمال في المفهوم الإسلامي هو مال الله، والناس مستخلفون فيه، وعليهم رعاية الفقراء (عيال الله) على أساس انهم مجرد وكلاء لله.
ويضاف إلى هذه الخصائص مشروعية المال وحله، ووضعه في محله المشروع أيضا، فلا يعد في الإسلام ملكا مشروعا إلا إذا كان مصدره حلالا، وينفق في الوجوه المشروعة.
وقد أظهر الرسول اهتمامه بسيادة هذا المفهوم الإسلامي العادل المتوازن منذ استقرت له الأمور في المدينة، فقد روى الطبري عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ"، فأحسنوا الكيل، وذلك أن الرسول كان كثيرا ما يخرج إلى الأسواق ويقرأ هذه الآية وما بعدها على التجار، وهم يزاولون البيع والشراء.
والحق أن للمال والاقتصاد مكانة متميزة في الإسلام غير أن هذه المكانة لا تجعلهما هدفا للحياة ولا مقياسا للرقي _ إذا وقفا وحدهما _ فلهما حد معلوم، ويجب أن يكونا وسيلة لا غاية وأن يؤمن المسلم _ كما رباه الرسول _ بأن القيم والمعاني الأخرى لا تنفصل عن المادة.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غني النفس"، ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم معنى الإفلاس، وأنه تجرد الإنسان من الأخلاق الحسنة.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
وهناك حديث أخر يؤكد أن الغنى في نفسه خير، وأنه لا يأتي بالشر، ولكن الشر مصدره الشر المستكن في النفوس الوضيعة المادية حتى وان كانت تملك أعراضا كثيرة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟، قال: "زهرة الدنيا"، فقال رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم جعل يسمح على جبينه، فقال: "أين السائل"؟ قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدنا حين طلع ذلك، قال: "لا يأتي الخير إلا بالخير".
سباب الغنى الشامل
من أجمع الأحاديث وأشهرها على ألسنة الناس في باب القناعة والصبر الذي لا يمنع من الأخذ بالأسباب قوله عليه السلام: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وهذا الحديث بالإضافة إلى أنه يقنع النفس بالقليل، هو أيضا يحذر من أن يسأل الإنسان الناس وعنده حظه من الأمن والمعافاة والقوت.
وخشية أن يفهم هذا الحديث وأمثاله على غير حقيقته يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تكثرا، فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر"، ويحدد النبي صلى الله عليه وسلم القدر الذي لا يحل للمرء أن يسأل الناس بعده شيئا : "من سأل الناس وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم"، قالوا وما يغنيه؟، قال: "قدر ما يغذيه ويعشيه".
والنبي صلى الله عليه وسلم يحث أمته على أسباب الغنى الشامل فيقول: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
وفي هذا السياق أيضا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره، فيتصدق منه، ويستغنى به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"، والنبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى الإنفاق في سبيل الحاجة، مصداقا لقول الله تعالى: "وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ"، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه الفقير (أبا ذر) الذي كان يتزعم حركة إصلاحية كبيرة حتى اشتهر بمحامي الفقراء قائلا له: "أبا ذر إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك".
وكذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتصاد، والإبقاء على ما يغني الأهل عن تكفف الناس.. يقول صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
ويمتدح النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه عرفوا بمظهر من مظاهر الاقتصاد والتعاون والتنمية، وهم الاشعريون، حيث يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الاشعريين إذا أرملوا في الغزوة، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم".
تكافل اجتماعي
ومن أروع الأحاديث التي تتصل بموضوع الاقتصاد والتكافل الاجتماعي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأى أصحابه أنه لا حق لأحد منهم في فضل".
ولما كانت التجارة هي أوسع أبواب الرزق، وكان التجار أقرب من الزراع والصناع في مجال الثراء الفاحش، وما يؤدي إليه من ترف وجشع فلهذا خصص الرسول التجارة والتجار بعدد من التوجيهات النبوية الكريمة.
فانطلاقا من الوحي الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم الأوضاع الجاهلية الفاسدة في عالم الاقتصاد.. سواء كانت هذه الأوضاع عادات وتقاليد فاسدة، أم كانت نظما ترسخ وأصبحت قوانين سائدة.
وبينما نجح الرسول الكريم عليه السلام _ بالقول والفعل _ في القضاء على نزعة احتقار الزراعات والمهن والحرف، واحتقار القائمين بها.. كذلك نجح الرسول بالقول والفعل ومن خلال النظم المقررة في دولة المدينة التي كان الرسول قائدها وقاضيها ومعلمها _ في القضاء على الظواهر التجارية المدمرة للمجتمع، التي يلجأ إليها اليهود لامتصاص ثروة المجتمع الإسلامي دون عمل أو كدح أو مغامرة وحتى العباس عم النبي كان (صاحب ربا) في الجاهلية، فوضعه الرسول، وقال: "ألا إن كل ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع هو ربا عمي العباس.. (كما ورد في خطبة الوداع).
كما أن الرسول حث التجار على التسامح في قوله: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى".. وهذا يعني _ ضمنا _ التجاوز عن المعسرين، والإرجاء في الدين إلى ميسرة وإبطال ما كان معروفا عند العرب من أن الدائن يأخذ من المدين عند تعذر قضائه لدينه عبدا، أو ولدا من أولاده، حتى يقضي ما عليه.
وحتى لا تصبح الحركة التجارية عرضة لتقلبات النفوس والأهواء أمر الرسول بكتابة الديون في صكوك.. وكان الرسول يأمر بأن يكتب ما يبيعه ويشتريه.
وكذلك حث الرسول على الصدق في التجارة، وبين أن البركة في هذا الصدق، فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، وقد نهى الرسول عن الغش، فقال: "من غشنا فليس منا"، كما نهى الرسول عن الحلف لترويج السلعة، فقال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وذكر منهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب".
وقد منع الإسلام الاتجار بالأشياء المحرمة كالخنزير أو الخمر فعن أبي سعيد الخدري قال: كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت سورة المائدة سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عنه وقلت إنه ليتيم فقال: "أهريقوه"، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار فقال: "لا يحتكر إلا خاطئ".
وقد نهى الإسلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مخافة أن يقع ظلم على المشتري.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان والشراء منهم حتى يصلوا السوق، فقد ورد عن نافع عن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أنه قال: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به السوق".
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراقب الأسواق ويوجه إلى التخلص من أية سلبيات تظهر فيها، فالرسول _ عمليا _ كان أول محتسب وإمام المحتسبين في تاريخ الإسلام.
عاون اقتصادي وإنساني
في الفترة المكية لم تكن هناك فرصة أمام المسلمين _ وهم أفراد مبعثرون مضطهدون _ للتفكير في إقامة كيان اقتصادي، وكان حسبهم في تلك الفترة أن يتعاونوا على توفير الحد الأدنى من التكافل الاجتماعي القائم على التعاون الاقتصادي والإنساني، وفي هذه المرحلة قام رجل مثل أبي بكر الصديق بشراء بعض المسلمين من العبيد وتحريرهم، ثم رعايتهم بعد ذلك.
وليس لدينا وثائق تدل على ممارسة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، ولا المسلمين المضطهدين في مكة لأية نشاطات تسمح لهم بأن يشكلوا كيانا اقتصاديا متميزا، بل إننا لنعرف أن أثرياء المسلمين وتجارهم مثل خديجة _ أم المؤمنين _ ومثل أبي بكر الصديق _ رضي الله عنهما _ قد تعرضوا لضغوط اقتصادية كثيرة، ولعل الحصار الذي فرض عليهم في شعب أبي طالب _ والذي كان من بنوده ألا يشتري منهم ولا يباع لهم _ من أقوى الأدلة على وجود روح عامة كانت تفرض عليهم حصارا اقتصاديا طيلة العصر المكي بدرجات متفاوتة.
ولم يقف ظلم قريش عند هذا الحد الذي يتجاهل أبسط حقوق الإنسان، بل إنها أقدمت على خطوة لم تمارسها إلا أبشع النظم الاشتراكية والشيوعية، وهذه الخطوة تقوم على مصادرة أملاك المسلمين وأموالهم التي يعجزون عن الهروب بها فرارا بدينهم، فمن المعروف أن المسلمين كانوا يتركون مكة وطنهم أفرادا مختفين في جنح الظلام، وفي هذه الحالات يصعب حمل أشياء من الأملاك الثقيلة، مكتفين بالحاجات الأساسية التي لابد منها في الطريق.
فلما هاجر معظم المسلمين متجرعين آلام الهجرة لأوطانهم ومساكنهم وبعض ذويهم اتخذ المشركون القرشيون قرارهم بمصادرة أموال المسلمين وأملاكهم، وتقسيمها فيما بينهم وكأن أصحابها هلكوا.
وكان من نتائج هذا القرار الجائز أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة منتصرا بعد الهجرة بثماني سنوات سأله أسامة بن زيد قائلا: يا رسول الله، أين تنزل غدا؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"، (وعقيل هذا هو أكبر أولاد عم الرسول _ أبي طالب _ ومع ذلك فقد عادى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع يده على أملاك الرسول وكأنه هو وارثه).. وعلى هذا تم تقسيم أملاك المهاجرين من مكة.
قيادة حكيمة
إن المرحلة المكية كانت بعيدة عن كل ما يتصل بوجود كيان اقتصادي ملموس للمسلمين المهاجرين، وقد هاجروا إلى المدينة وهم لا يملكون شيئا من شأنه أن يقيم حياتهم بطريقة استقلالية، ولولا قيادة الرسول الحكيمة، وإلهام الله له لما أمكن قيام دولة المدينة التي لا يملك جزءا كبيرا منها المقومات المادية الأساسية للحياة، ولكن قاعدة المؤاخاة التي بنى عليها الرسول العلاقة بين المهاجرين الوافدين وبين الأنصار أهل المدينة الأصليين هي التي نجحت في استيعاب هذا الموقف والانتصار عليه بدرجة مذهلة، فقد كان عدد أفراد المهاجرين كبيرا.
وكانت يثرب مدينة صغيرة يعمل أهلها في الزراعة، وكانت سوقها التجارية في يد اليهود، ولم يأت المهاجرون معهم برأس مال يصلح لمنافسة اليهود.. لكن روح المؤاخاة صنعت أواصر أقوى من أخوة النسب وأبعد منها مدى، لدرجة أنهم بهذه المؤاخاة توارثوا لفترة من الزمن، فقد كانت هذه الاخوة قوية لدرجة أن الأنصار قسموا أموالهم قسمين، وأعطوا قسما للمهاجرين، ولعل نموذج التعامل بين عبد الرحمن بن عوف المهاجري، وسعد بين الربيع الأنصاري يدلنا على طبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين المهاجرين والأنصار في واحدة من أرقى صورها، ذلك أن المهاجرين من جانبهم لم يقبلوا أن يكونوا عالة على إخوانهم الأنصار.
لقد قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: إني أكثر الأنصار مالا فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبها إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها.
قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن.
وهذا النموذج الذي قدمه عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع يدل على علاقة اقتصادية واجتماعية بدأت تتشكل في كل مجتمع المدينة، ومجتمع المسلمين الأول.
فالحقيقة أن الإخاء الإسلامي الذي قدم الأنصار والمهاجرون أروع نماذجه كان تطبيقا لتوجيهات القرآن، وكان كذلك تطبيقا لتوجيهات الرسول الذي يقول: "ما آمن بي رجل بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم..".
وهذا الإخاء _ في هذا المستوى الأعلى الذي قدمه مجتمع المدينة _ ظل يعمل عمله في الحضارة الإسلامية، بتأثير التوجيه النبوي، الذي جعله فريدا في بابه.
إحياء الأرض الزراعية
إن المهاجرين عندما وفدوا إلى المدينة استقبلهم إخوانهم الأنصار ـ انطلاقا من قاعدة المؤاخاة ـ بحب وإيثار لم يعرف تاريخ البشرية مثلهما، لدرجة أن الأنصار استحقوا أن يقول الله فيهم في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكان مما عرضوا عليهم أن يقسموا بينهم أموالهم وأرضهم ودورهم..
لكن المهاجرين شكروا لهم كرمهم، وحملوا في شتى مناشط الحياة مع إخوانهم الأنصار.. وكان الأنصار أصحاب مزارع فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال: لا.. فقالوا تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
وقد بدأت عملية مزارعة كبرى في المدينة أعقبتها حركة إحياء للأرض الزراعية المهملة.. وفقا للقاعدة الشرعية التي وضعها الرسول عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا مواتا فهي له".
وقد أقطع الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب عيونا بينبع اشتهرت فيما بعد بكثرة إنتاجها، وعمل فيها علي رضي الله عنه بنفسه.
كما أقطع الزبير بن العوام أرضا بالمدينة استثمرها في الزراعة في حياة الرسول.
وقد اشتهرت الكثير من الأودية التي انتشرت الزراعة بها في عصر الرسول، منها وادي العقيق الذي هو أهم أودية المدينة وفيه أموال أهل المدينة ومزارعهم، وكذلك من الأودية المهمة التي استخدمت للزراعة في المدينة وادي بطحان، وكانت به مزارع بني النضير وأموالهم، وكذلك وادي مهزوز كانت به أموال قريظة، ووادي قناة وهو ثالث أودية المدينة، ووادي رانونا.
وكذلك من الأودية التي استفيد من أرضها بالزراعة وادي القرى، وكذلك عرف في الطائف الكثير من الأودية التي استفيد منها بالزراعة أهمها وادي "وج" ويقع غرب الطائف وفيه الكثير من المزارع والبساتين وترفده بعض الأودية الأخرى، كذلك وادي "ليه" ويقع شرق الطائف وبالقرب منها.
ولم يكن المهاجرون والأنصار وحدهم الذين أقاموا النهضة الزراعية في المدينة المنورة، بل كان ضمن العاملين بالزراعة في المدينة وغيرها من مدن الحجاز شباب آخرون من الأجانب الذي اسلموا والتحقوا بالمدينة، سوريين أو مصريين أو رومانيين أو عراقيين.
ومما يدل على كثرة الموالي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما حاصر الطائف وأعلن عتق من ينزل إليه من الموالي نزل إليه ثلاثة وعشرون عبدا من الطائف.. وكانت هناك مجموعة كبيرة من الموالي الأحباش يعملون في المدينة في حقول الأنصار، ويدل على وجودهم الملموس انهم حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الهجرة خرج هؤلاء الأحباش واجتمعوا ولعبوا بحرابهم فرحا بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يكون للمدينة كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستقل، اعتمادا عل التشابك القائم بين مجموعة النظم في إقامة كيان الدولة وتحقيق هيبتها الداخلية والخارجية.
وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وأقام سبعة أشهر في بيت أيوب الأنصاري، قام الأنصار بالتنازل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل فضل كان في خططهم.. حتى يتمكن من تنظيم المدينة تنظيما يسمح بكفالة إخوانهم المهاجرين، بل إنهم _ رضي الله عنهم _ قالوا للرسول: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا.. فشكر الرسول لهم قولهم.
مجتمع السواسية
من هذه المسيرة العملية يستخلص الاقتصاديون المعاصرون بعض القواعد الاقتصادية النظرية التي يستند إليها النظام الاقتصادي الإسلامي الذي أقامه الرسول في عقول المسلمين وفي حركة الحياة، مشيرين إلى أن هذا الأساس النظري الاقتصادي الإسلامي يتضمن أكثر من نظرية علمية منبثقة من آيات القرآن الكريم، والحديث الشريف.
ويرى هؤلاء الاقتصاديون أن المبادئ الأساسية من البناء الاقتصادي العلمي الذي أقامه الرسول يتلخص في المبادئ التالية:
< أولا: نظرية دورة الإنفاق الخيرة، وهي تطبق في أوقات الرخاء والكساد معا (فلا جمود ولا توقف ولا اكتناز ولا احتكار ولا ربا).
< ثانيا: الحد من أرباح الوساطة، وتحريم الربا والاستغلال بصفة عامة.
< ثالثا: الملكية الخاصة وظيفة اجتماعية وليست حقا مقدسا، ولا يجوز أن تنفصل عن العمل لتصبح أداة لاستغلال عمل الغير.
< رابعا: إقامة مجتمع السواسية والمقاسمة المقنعة والطوعية في الأموال والخبرات، وهكذا أقام الرسول مجتمعا مؤمنا ملتزما له فكره الاقتصادي المربوط بقواعد الإيمان، والقائم على الاقتناع الداخلي الذي يصل حد الكفاية والزهد والاستعلاء، ويقدم أروع صور التكافل الاجتماعي القائم على الحب والإخاء والإيثار.
ولم يكتف الرسول بهذا البناء الاقتصادي القائم على التكافل، بل عمل على بناء الإنسان جسدا كما بناه عقلا وروحا وفكرا.. ولهذا أمر بالرياضة ولا سيما الرمي، وحث على القوة، وفضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف، ووجه إلى علمى الوقاية والعلاج، وعلم المسلمين أن لكل داء دواء إلا الهرم، فعليهم أن يعملوا على الحفاظ على صحتهم والعلاج إذا مرضوا.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وابن ماجة رحمهما الله: "ما أنزل الله داء إلا أنزل به شفاء"، ومعنى هذا التوجيه أنه ليس هناك من مرض إلا ود خلق الله تعالى له دواء وشفاء، وليس هناك أي قول آخر يشجع على تحصيل العلم في ميدان الطب مثل هذا القول الوجيز الجامع والشامل، فقوله هذا _ عليه الصلاة والسلام _ يعني أنه ما من داء إلا وله دواء، أي يمكن العثور على أدوية لكل الأمراض الموجودة إلا الشيخوخة وذلك بعد توفيق الله وعنايته.
وفي رواية أخرى: "لكل داء دواء"، وفي حديث آخر: "تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم".
ورسول الله بهذه الأحاديث وبأحاديث أخرى مشابهة يدعو أهل العلم جميعا، وجميع من آتاهم الله موهبة وفضلا، وجميع الباحثين إلى تكثيف جهودهم وبذل مساعيهم لاكتشاف الأدوية ووسائل العلاج.
وهناك أحاديث أخرى مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في علم الصحة،ولا سيما فيما يتعلق بـ "الطب الوقائي" الذي يشكل جزءا مهما من علم الطب، وهذا شيء طبيعي، ذلك لأن علاج المرض ليس هو المهم، بل الأهم منه هو حفظ صحة الإنسان، وحمايته من المرض.
فبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بإصلاح أمراض القلوب والنفوس، كان يقوم أيضا بحماية المؤمنين من الأمراض الجسدية، أي أنه كان يقوم بحفظ أتباعه وصيانتهم من الأمراض النفسية والقلبية والجسدية كلها، وذلك انطلاقا من أن الإنسان كائن مركب، وأنه إذا فسد منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وانطلاقا من أن العقل السليم والروح السليمة يحتاجان لجسد سليم، فالإنسان كل لا يتجزأ.
نقلا عن الموقع العالمى للإقتصاد الإسلامى
تفاعل مع الصفحة