ارتباط فن النجارة بالحضارة العربية
أول اعمال النجارة فى التاريخ
سفينة نوح: كانت صناعة سيدنا نوح لسفينته التى أنقذت البشرية من الطوفان, أولى أعمال النجارة فى التاريخ, وذلك عندما أوحى الله تعالى إلى نوح "واصنع الفلك باعيننا ووحينا" (سورة هود, الأيه 37) وجاء فى احدى المخطوطات القديمة أن نوحا قال: يا رب وما الفلك؟ قال هو بيت من الخشب يجرى على وجه الماء(... ولما صار الخشب عند نوح قال: يارب وكيف اصنع هذه السفينة؟ فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل أن يعلمه كيف يصنع السفينة, فكان نوح يصنع الخشب الواحا ويلصق بعضها ببعض ويسمره بالمسامير.) وجاء بالكتب القديمة عدة أوصاف لسفينة نوح, منها ما ذكره ابن إياس الحنفى فى كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" قال ابن عباس رضى الله عنه: كان طولها ألف ذراع, وعرضها ستمائة ذراع و وارتفاعها ثلاثمائة ذراع. ويرى أن نوحا أقام فى صنعها أربعين سنة, فكان القوم يسخرون منه, ويقولون له: يا نوح قد تركت النبوة وصرت نجارا؟
وجاء فى الإصحاح الخامس بسفر التكوين: "وكان عمر سيدنا نوح عندما صنع السفينة 500 سنة", وبذلك يعتبر نوح أول النجارين فى التاريخ, ويبدوا أن ما ورد فى المراجع العربية القديمة عن ذكر صناعة فلك نوح قد أثر فى عمومه على النجارة بعد ذلك التاريخ.
صندوق موسى: طالعتنا الكتب القديمة أيضا باسم نجار من مصر يقال له سونام, قد صنع صندوقا من الخشب حسب مواصفات ومقاسات معينة, شريطة الا يدخل الماء غليه, كى تضع فيه أم موسى وليدها, وتقذف به غلى اليم.
النجارة فى مصر قبل الإسلام
وكما ذكرت المراجع القديمة عن صناعة صندوق موسى عيه السلام فى العصر الفرعونى فقد ذكرت الكثير من الكتب والمراجع, بل وتزخر المتاحف أيضا بما بلغته النجارة من شأن عظيم من الإتقان والإجادة فى عهد المصريين القدماء, فقد صنعوا صناديق أيضا وتوابيت ونعوشا ومقاعد وأسرة وموائد ومساند للراس, غلى جانب ما صنعوه من السفن والمراكب والعربات, وقد مارس المصرييون القدماء فن الحفر على الخشب, وظهر ذلك فى تمثال شيخ البلد, وفى كثير من أرجل الكراسى والأسرَه, التى يظهر فيها مدى ما وصلت إليه النجارة فى عهدهم من ابتكار وإبداع.
عصر الإغريق والرومان
وفى العصر الإغريقى كان الأثاث المصنوع من الخشب بطراز جميل, حيث كانت المقاعد فى بادئ الأمر تعمل ذات مساند خلفية (ظهور) راسية, ثم تطورت إلى مقاعد ذات ظهور ومساند مائلة ومقوسة لراحة الجسم, وكانت الأرجل مسلوبة ودقيقة الأطراف, وقد استخدموا أخشاب الأرز والزيتون والبقس, وكانت تدهن بالألوان الزاهية وتذهًب.
ولم يختلف طراز النجارة بعد ذلك فى العصر الرومانى, حيث لم تكن ثمة تفرقة قاطعة بين نجارة مشغولات الأثاث الإغريقى والرومانى؛ لأن النجارين والمصممين كانوا من الإغريق إلا أنهم كانوا يحبون كثرة الزخارف, كما كانوا يصنعون الكراسى بأنواعها من الرخام والمرمر وبعض أنواع المعادن.
طابع النجارة العربية
أما عن النجارة العربية, فقد اختلف طابعها منذ نشأتها اختلافا جوهريا عن ذلك الطابع لنجارة الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية التى سبقت ظهور الإسلام, بل اتخذت لنفسها سمة خاصة يمكن تمييزها بسهولة.
ولقد كانت النجارة فى البادية أقرب غلى النواحى البُدائية حيث استخدمت مفالق النخيل وبعض ألواح من جذوع الأشجار فى مشغولات بسيطة, صنعت بطرق ساذجة, وتقدمت صناعة النجارة شيئا فشيئا منذ فجر الإسلام, عندما اهتم المسلمون بالمسجد, وبمكانته الدينية والدنيوية, فقد كان المسجد هو المؤسسة الدينية الأولى, وكان يقوم فى الأقاليم الإسلامية بوظائف سياسية وإجتماعية وإقتصادية وعسكرية وثقافية وتعليمية, وقال الزجاج:"كل موضع يتعبد فيه فهو مسجد."
والمسجد مكان العبادة والقيادة, والتشاور فى مختلف الأمور التى تعرض للمسلمين, وهو مدرسة وجامع ومنتدى ثقافى وإجتماعى ومحكمة, ففى عهد الرسول (صلعم), كان المسجد النبوى فى المدينة هو المركز السياسى والإدارى للمسلمين, كذلك فى عهد الخلفاء الراشدين الذين كانوا يديرون شئون الدولة الإسلامية كلها من هذا المسجد, وفيه يلتقون بالولاة وسائر المسلمين, ويتخذون فيه القرارات السياسة والإدارية والعسكرية, وبالإضافة غلى هذا وذاك فقد كان له دور كبير فى الحياة الإقتصادية؛ حيث اعتاد معظم الولاة فى صدر الإسلام حفظ الخزائن العامة فى المسجد, كما كانت تعقد به الصفقات التجارية على مشهد ومسمع من المسلمين, وفضلا عن ذلك فقد كانت الجيوش الإسلامية فى كثير من المدن الإسلامية تبدأ مسيرتها وزحفها من الفناء الواسع أمام المسجد, كما كان المسجد يقوم بدور الجامعة والمعهد والمدرسة, وأدى المسجد فى صدر الإسلام وظيفة قضائية, فقد اعتاد القضاة الجلوس فى الجامع الرئيسى فى كل مدينة إسلامية, من إجل ذلك عنى المسلمون عناية كبيرة بالمساجد, فظهرت فنون أعمال النجارة فيها واضحة جلية فى المنابر والدكك والأسقف وبعض القباب والنوافذ والأبواب وغيرها, وقد استمر المسجد يقوم بهذه المهام أو بأغلبها حتى القرن السادس عشر, عندما فقد مركزه فى الحياة العامة, وأخذت وظائفه تتقلص حتى اقتصرت على العبادة فقط.
أول أعمال النجارة العربية فى الإسلام
ويعتبر المنبر الخشبى من اقدم وأهم مستلزمات هذا المسجد, وأعظمها شأنا, لما كان عليه من دور كبير فى نشر الإسلام, فالى جانب أنه وسيلة للخطبة فإنه كان أيضا وسيلة للحث على إذاعة العقائد الإسلامية والأوامر والنواهى فى وقت السلم, والحث على الجهاد فى وقت الحرب, كما كان الوسيلة الهامة لمبايعة خليفة أو تنحيته عن الخلافة.
وتعتبر صناعة أول منبر للرسول عليه الصلاة والسلام ليقف فوقه عند خطبة الجمعة بين المسلمين, أولى أعمال النجارة العربية فى التاريخ الإسلامى كله, فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام عند بدء دعوته للإسلام يخطب فى الناس وهو واقف بين النفر القليل الذين كانوا يستمعون إليه, ولقد ورد ذكر لذلك عند ابن سعد فى الطبقات حيث يقول:"كان رسول الله(صلعم) يصلى إلى جذع, إذ كان المسجد عريشا فكان يخطب إلى ذلك الجذع, فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله, هل لك أن أعمل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم خطبتك, قال نعم, فصنع له ثلاث درجات." وجاء فى رواية أخرى:"فقال له أصحابه يا رسول الله, إن الناس قد كثروا, فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس, فقال ما شئتم."
أما عن شكل وتصميم منبر الرسول عليه الصلاة والسلام فقد وردت بشأنه عدة روايات, اتفقت فى أنه كان بسيطا فى جملته وليس فيه من النقوش ودقة العمل وقد عبر عن ذلك ابن عبد ربه الأندلسى فقال:"... وله درج, وسمٍر فى أعلاه لوح لئلا يجلس عليها, وهو مخنصر, ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما فى منابر زماننا الآن."
من كتاب "النجارة العربية فى مصر ومشاهير صناعها" للدكتور محمود عبد العال
تفاعل مع الصفحة