البصرة: الصناعات الشعبية بعضها انقرض.. والآخر يحتضر

العراق - حمّل حرفيون في محافظة البصرة الجهات الحكومية بعدم الاهتمام وتجاهل الصناعات الشعبية والحرف اليدوية التي توارثها البصريون عبر سنوات طويلة، مما أدى الى اختفاء معظمها فيما تحتضر الصناعات المتبقية. وتعد صناعة الفخاريات والسفن والزوارق الخشبية ومنسوجات سعف النخيل والقصب والبردي والجلود والمصوغات الذهبية والتحف النحاسية في مقدمة تلك الصناعات في البصرة. وأكد عدد من الحرفيين لـ«الشرق الأوسط» أن «البصرة اشتهرت ومنذ أزمان بعيدة بين المدن العربية والخليجية خاصة بالصناعات الشعبية المستمدة من التراث الشعبي، ابتكرها الأوائل لضرورات الحياة، ولم تحكمها نظريات علمية أو تطبيقية، بل تعتمد على إيحاء من الطبيعة وتقليدها، وتناقلها حرفيون مهرة من جيل الى آخر».

وأشار الحرفيون الى ان «عدم وجود جهات حكومية تعنى بها أدى الى اضمحلال وتدهور معظمها، في حين انها تعد من موروث المجتمع وذخيرة من ذخائر البلد، ولا يعفي تطور الحياة وتقدمها من إيلائها الرعاية وخصها بالاهتمام والمحافظة عليها».

ويستذكر جبار شنشول (74 عاما) علاقته بصناعة الفخار التي اختفت من المدينة وكيف كان يسوق لركاب القطارات اكثر من 150 الف جرة، وتسمى أيضا (شربة او تنكه) سنويا في الستينات عندما كانت القطارات تفتقر الى خزانات الماء.

وقال شنشول «إن من منتجات صناعة الفخاريات التي كان معظمها بمثابة براد للماء هي الحب والكوز والبستوكة والمدانة والشربة والدفوف والسنادين، وان اختفت صناعتها بالمدينة، إلا ان لها معامل تصنعها لحد الآن في بغداد»، وذكر ان اطرف استخدام لـ«الشربة» هو «قيام بعض العوائل المسلمة بكسرها وهي مملؤة بالماء امام باب البيت عند انتهاء شهر صفر طردا للشر وعيون الحساد وقيام العريس والعروس من ابناء الصابئة المندائية بكسر كل منهما شربة عند عقد القران». وظلت صناعة الجلود التي تعتمد على نوعين منها، هما الطبيعي والصناعي، حبيسة الوضع الاقتصادي للمدينة، وتعتبر فترة الحصار الاقتصادي في مطلع تسعينات القرن الماضي الفترة الذهبية لأصحاب هذه المهنة الذين يسمون بـ «السراجة»، بسبب ازدياد الطلب عليها لكونها تعتبر ارخص ثمناً من المنتجات الأخرى. ومن اشهر منتجاتها سروج الخيل والأحزمة والأحذية واغلفة المسدسات والخناجر وجعب مخازن العتاد وحافظات الهواتف الجوالة.

ولم يبق في سوق الصفارين، المعروف بصناعة للأواني المعدنية من النحاس والطرق على المعادن، من بين 40 محلا في الماضي القريب، الا محل واحد بعد انقراض هذه الحرفة اليدوية. وقال الحاج صباح سلمان الجبوري (صاحب المحل)، الذي يعشق حرفته التي توارثها عن آبائه، ان «أغلب المهن الحرفية بدأت بالانقراض في مدينة البصرة ومنها مهنة الصفارين بعد أن غزت المواد المستوردة والرخيصة المصنوعة من البلاستيك والالومنيوم الأسواق المحلية، مما جعل الأهالي يقبلون على شرائها»، واضاف «ان ما نصنعه الآن لا يتعدى الدلة والهاونات وأشياء للمواكب الحسينية والتحف والزهريات التي توضع في زوايا البيت، بينما كان كل بيت لا يخلو من السلع النحاسية مثل الطشت والإبريق واللِّگن (اللجن) والمسخنة والصينية وأواني منزلية وقدور». وأكد الجبوري أن الاستيراد غزا أسواق الصفارين، مشيرا إلى أن الصناعة اليدوية لم تزل هي الأغلى سعرا لمتانتها. ولكثرة بساتين النخيل والأهوار المشهورة بالقصب والبردي وخاصة في المناطق الريفية من المدينة اشتهرت البصرة بصناعة الحصران والسلال والبواري والأقفاص والأسرة والكراسي، خاصة في مناطق أبي الخصيب والقرنة والمدينة. وغالبا ما يشترك كل افراد الاسرة بالعملية الانتاجية حيث تقوم الأسر بتغطيس المواد الأولية في الماء لفترة من الوقت حتى تسهل عليهم عملية حياكتها ونسجها على النحو الذي يرغبونه.

وتعد «المهفة»، أو المروحة اليدوية، من اشهر هذه الصناعات التي لقيت رواجا بسبب انقطاع التيار الكهربائي في فصل الصيف، اضافة الى صناعة الزنبيل والسفرة والسلال.

وبعد عزوف صناع السفن الخشبية وزوارق الصيد الذين يطلق عليهم بـ«القلافة»، عن ممارسة أعمالهم لارتفاع أسعار الخشب المستورد وتزايد الطلب عليها من قبل الصيادين وخاصة في منطقة الفاو التي يمتهن معظم سكانها الصيد البحري، برزت في جزيرة الداكير، إحدى جزر شط العرب المقابلة للعشار وهو المركز التجاري للمحافظة، ورش ومعامل صغيرة أقامها الحرفيون والصناعيون لصناعة ما يسمى محليا بـ«الدوب اللنشات والزوارق والجنائب والجودي»، وهي جميعا من وسائط النقل النهرية والبحرية. وقد استخدم الحرفيون في صناعتها ما تبقى من صفائح حديد البليت السميك لخزانات النفط التي تعرضت للقصف خلال حروب الخليج المتوالية لتوفره بكميات كبيرة جدا وتدني اسعاره. الى ذلك، أكد عاصم وليد، صائغ، ان «صياغة الذهب والفضة في البصرة من المهن الحرفية العريقة التي لا يزال أصحابها يمارسونها ومعظمهم من طائفة الصابئة المندائية بالرغم من هجرة امهر الصاغة الى الخارج نتيجة اعمال العنف التي شهدتها المحافظة في السنوات الاخيرة»، مشيرا الى ان حرفتهم هذه تضاهي صناعة الحلي في مناطق الخليج العربي لما تحمله من رونق في زخرفتها. ومن الحرف الشعبية التي احتفت هي صناعة الحبال التي كانت مزدهرة في القرن الماضي، وخشابو الدور التراثية الذين ابدعوا في صناعة  الشناشيل لما تحمله من عراقة وإبداع في فن الزخرفة والتصميم. ويرى خالد خضير، ناقد تشكيلي، ان «عدم الاهتمام بالصناعات الشعبية هو تعدٍ على الحرفيين، كونه يهمل الجانب الإنساني لهم لأن بعض الحرفيين يتخذ من حرفته وسيلة للتنفيس عن ضغوطه النفسية، وبالتالي هو مبدع في صناعته».

منقول من "الشرق الأوسط"


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة