عيتا الفخار: ماتت الحرفة وبقي الاسم

لبنان - لا يملّ ميشال أبو عسلي (70 عاماً) من قصّ حكايته الطويلة مع صناعة الفخار في بلدته عيتا الفخار في البقاع الغربي. فعيتا، أو العيطة والصراخ، أعطتها صناعة الفخار منذ مئات السنين شهرة واسعة تجاوزت لبنان. ولكن عيتا اليوم تفتقد إلى «فخارها»، بعدما اندثرت هذه الصناعة الحرفيّة منذ أكثر من ثلاثة عقود. فالآباء لم يورثوا الأبناء هذه «الحرفة» الشاقة، على حد قول أبو عسلي الذي تحوّل «أتونه» إلى أثر بعد عين.

عيتا الفخار التي لم تعد تصنع الفخار من «حفر تربتها يدوياً واستخراج مادة الدلغان»، تصر على الاحتفاظ بـ«الفخار» كاسم توأم لها لا تتخلى عنه، رغم تخلي أهل البلدة عن هذه الصناعة التي كانت مصدراً لعيش مئات العائلات قبل الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975. ويقول أبو عسلي الذي كان ملازماً لوالده منذ صغره في صناعة الفخار، إنه أتقن هذه الحرفة الشاقة إلى أن هجرها نحو الالتحاق بالمؤسسة العسكرية حين أصبح في سن الرشد: «كنّا نتعب كثيراً في صناعة الجرار والأباريق والخوابي والقدور وأواني الزينة... وكنت أتحيّن الفرص دوماً للهرب من هذه المهنة المتعبة جداً. التحقت بالجيش وهجرت صناعة الفخار، والأتون الواقع قرب منزلنا انهار مع الزمن».
أكثر من عشرين معملاً أو «أتوناً» كانت تعمل على إنتاج الفخار في عيتا الفخار، ولم يبقَ منها إلا بقايا بالكاد تعرف أمكنتها مع التوسع العمراني في البلدة. عيتا الفخار (1200 نسمة مقيمة من أصل 4 آلاف) التي تحنّ إلى صناعتها التاريخية، كانت توزّع «فخارها» في مختلف الأسواق اللبنانية، وصولاً إلى الشام. ويقول أبو فؤاد: «لقد عاشت أسرتنا من صناعة الفخار رغم كل التعب، وكان الطلب على الفخار كبيراً. أما اليوم، فإن أباريق الزجاج احتلت المرتبة الأولى، وأصبحت الجرة أو الخابية للزينة في زوايا المنازل». يحتفظ أبو فؤاد في غرفة صغيرة على سطح منزله بعدد من الجرار والقدور الصغيرة والمتوسطة التي صنعها في «أتونه» منذ أكثر من نصف قرن: «لم يعد عندي من الفخار الذي كنا نصنعه سوى ثلاث جرار صغيرة، أحتفظ بها كذكرى غالية على قلبي. لم يعد أحد في عيتا غيري يعرف كيف كنا نصنع الفخار، وأنا لم أرد أن أورث أولادي هذه المهنة لأنها متعبة وشاقة. كنا أيام زمان نعتاش منها، ولكن أصبحت لاحقاً مهنة تأخذ منا كل شيء وتغرقنا بالديون. فحين كنا نجمع الحطب لإشعال الأتون، كانت الدولة ترسل لنا مأمور الأحراج وينظم بحقنا مخالفة، فندفع كل ما كنا نجنيه من صناعة الأباريق والجرار».
وخلفت عيتا الفخار حرفتها التقليدية ودخلت في دوامة النمو الاقتصادي، بعدما أسست فيها الدولة مراكز عدة لإداراتها الرسمية، من مركز للجمارك، ومخفر للدرك، ومركز للبريد (وذلك لقربها من الحدود السورية). وبعدما صنفت رسمياً «مصيفاً» عام 1960، بدأ سكانها يحوّلون اهتماماتهم نحو التجارة وصناعة النبيذ والعرق والألبان والأجبان وبعض المأكولات الريفية. فتغير المردود المادي للعائلات التي هجرت كلياً مهنة الأقدمين وتركت «خربات الأتون» في مهب الريح.

منقول من موقع "جريدة  الأخبار"


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة