مساهمات الحضارة الإسلامية في المعرفة العالمية وتحريف نسبها في السرديات الغربية

تتناول هذه المقالة الإسهامات العلمية والفكرية العميقة التي قدمتها الحضارة الإسلامية خلال العصور الوسطى، وكيف تبنّاها العالم الغربي لاحقًا وأعاد نسبتها إلى نفسه. بالاعتماد على مصادر تاريخية أولية وثانوية، تسلط الدراسة الضوء على تأثير علماء مثل ابن الهيثم، والخوارزمي، وابن سينا، والزهراوي، وغيرهم ممن مهدوا الطريق لعلماء عصر النهضة الأوروبي. وتتناول المقالة أيضًا محاولات التهميش أو التجاهل المتعمد لهذه الإسهامات في كتابات المؤرخين الغربيين، مع التوسع في مجالات علمية متعددة تشمل الكيمياء، الفيزياء، الزراعة، الهندسة، الاقتصاد، الجغرافيا، الفلسفة، الطب، الرياضيات، وعلوم اللغة.

المنهج العلمي: ابن الهيثم وتجاوز الغرب لإسهامه

ابن الهيثم (965–1041م) وضع قواعد المنهج العلمي التجريبي، حيث استند في أبحاثه إلى الملاحظة الدقيقة، التجربة، والتكرار، وهو ما يجعل كتابه "المناظر" أولى المنشورات التي توضح أهمية التجريب في بناء المعرفة العلمية.

مع ذلك، في أوروبا، نُسبت صياغة المنهج العلمي إلى فرانسيس بيكون (1561–1626م)، الذي يُعتبر "مؤسس المنهج العلمي" في التاريخ الغربي. هذه النسبة تتجاهل بشكل صارخ أكثر من 500 سنة من عمل ابن الهيثم (Sabra, 1989). كذلك، غاليليو جاليلي (1564–1642م)، الذي يُطلق عليه "أب الفيزياء الحديثة"، استعار من منهج ابن الهيثم التجريبي لكن كتب التاريخ الغربي تغفل هذه العلاقة (Lindberg, 1976).

تُظهر الدراسات أن بيكون نفسه لم يذكر ابن الهيثم في كتاباته، رغم أن الأخير وضع أفكارًا مطابقة أو متقدمة بكثير. هذا التجاهل المنهجي ساعد في بناء سردية غربية تحصر أصل المنهج العلمي في أوروبا فقط.


الجبر والخوارزميات: كيف نسب الغرب ريادة الخوارزمي إلى أوروبا

محمد بن موسى الخوارزمي (780–850م) وضع أول معجم منظم للجبر في كتابه "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، كما أدخل النظام العشري والأرقام الهندية التي تعتمد عليها الحوسبة الحديثة. كلمة "Algorithm" مشتقة من لفظ اسمه في اللاتينية "Algoritmi".

مع ترجمة كتاباته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، استحوذ الغرب على علوم الجبر، لكنه تجاهل غالبًا الإشارة المباشرة لخوارزمي (Katz, 2009). في القرن السادس عشر، كتب إدواردو سيتالدي (Eduardo Sitaldi) وغيره كتبًا عن الجبر دون ذكر واضح لخوارزمي، مؤسسين سردية تقول إن الجبر "نشأ في أوروبا".

تُظهر التحليلات أن الاستعمار الفكري الأوروبي من خلال السيطرة على الجامعات والنشر ساعد على تحييد دور العلماء المسلمين، وتحويل الجبر إلى "اكتشاف غربي" في الكتب المدرسية الأوروبية الحديثة (Rashed, 1994).


البصريات ونظرية الضوء: سرقة أفكار ابن الهيثم من قبل كيبلر ونيوتن

ابن الهيثم وضع أساسيات علم البصريات في "المناظر"، مقدمًا تصحيحًا لنظريات الإبصار السائدة في الحضارات السابقة، مثبتًا أن الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين، وليس العكس.

يُعتبر يوهانس كيبلر (1571–1630م) وإسحاق نيوتن (1642–1727م) من أعظم من وضعوا أسس البصريات الحديثة. ومع ذلك، اعتمدوا على تجارب ابن الهيثم وملاحظاته دون تقديم الإقرار المناسب له (Sabra, 1989).

كتب تاريخ العلوم الغربية تميل إلى ذكر ابن الهيثم كعالم مسلم سابق، لكنه يُطرح كمصدر "مهم لكنه فرعي"، بينما يُحتفى بأعمال كيبلر ونيوتن على أنها إبداعات أصلية.


الطب والجراحة: إخفاء دور ابن سينا والزهراوي في التاريخ الغربي

ابن سينا (980–1037م) وكتابه "القانون في الطب" ظل المرجع الطبي الأساسي في أوروبا حتى القرن السابع عشر، معتمدًا في جامعات مثل بولونيا ومونبلييه.

إلا أن معظم التاريخ الطبي الغربي يركز على العلماء الأوروبيين كهيبوليتوس وباراسيلسوس، متجاهلاً ابن سينا، أو يعترف به فقط كجزء من التراث "القديم" دون تقدير عمق تأثيره (Pormann & Savage-Smith, 2007).

الزهراوي (936–1013م)، مؤسس الجراحة الحديثة، والذي صمم أكثر من 200 أداة جراحية، لم يحصل على التقدير الكافي في كتب الجراحة الغربية. تُنسب الأدوات والتقنيات التي ابتكرها أطباء غربيون لاحقون، رغم أنهم استفادوا منها بشكل مباشر.


الفلك: سرقة نماذج البتاني والطوسي من قبل كوبرنيكوس

البتاني (858–929م) وطوّر جداول فلكية دقيقة، أما نصير الدين الطوسي (1201–1274م) فابتكر "الزوج الطوسي"، نموذجًا رياضيًا لحركة الكواكب.

كوبرنيكوس (1473–1543م) الذي يُنسب إليه الثورة الفلكية، اعتمد على هذه النماذج دون الاعتراف بصراحة بمصدرها. كتبه تُظهر تأثرًا مباشرًا بالنظريات الإسلامية، لكنها تُقدم كأفكار جديدة بحتة (Saliba, 2007).

هذه السرقة الفكرية تم التستر عليها في كتب التاريخ الفلكي الأوروبية، وتكررت في سرديات العلوم الأوروبية بشكل ممنهج.


الفلسفة والمنطق: إعادة تأطير ابن رشد والفارابي في الفكر الغربي

ابن رشد (1126–1198م) كان مفسر أرسطو الأساسي في العصور الوسطى، وقد أثر بشكل مباشر على توما الأكويني والفلاسفة الأوروبيين. لكن تحليلاته تم استيعابها ضمن إطار الفلسفة الأوروبية، دون الإشارة إلى أصولها الإسلامية (Fakhry, 2002).

الفارابي (872–950م) وضع نظريات في المنطق والسياسة والاجتماع، والتي تم تعديلها وإعادة صياغتها في الفكر الأوروبي لاحقًا، ليُقدم الغرب أفكارًا مماثلة باعتبارها إبداعات محلية.


الكيمياء والفيزياء: جابر بن حيان والبيروني بين الظل والنسيان

جابر بن حيان (721–815م) يُعتبر مؤسس الكيمياء التجريبية، مع تمييزه بين الأحماض والقلويات واختراعه لأدوات مختبرية. لكن في أوروبا، غالبًا ما يُنسب تطور الكيمياء التجريبية إلى روبرت بويل (1627–1691م) وأنطوان لافوازييه (1743–1794م)، مع استبعاد واضح لجابر (Nasr, 2006).

البيروني (973–1048م) أسس العديد من الأفكار في الفيزياء والجيوديسيا، وقاس محيط الأرض بدقة عالية قبل كوبرنيكوس ونيوتن بقرون، لكنه أغفل في الكتب الغربية التي تركز على العلماء الأوروبيين فقط.


الزراعة والاقتصاد: إهمال مساهمات ابن بصال وابن خلدون

ابن بصال (1067–1148م) قدّم ابتكارات في الري وتدوير المحاصيل، لكن الكثير من المراجع الزراعية الأوروبية تتجاهل أو تقلل من أهميته.

ابن خلدون (1332–1406م)، مؤسس علم الاجتماع، ناقش الدورة الاقتصادية، تقسيم العمل، والدولة. في الغرب، تُذكر أفكار مشابهة له على أنها من نتاج فلاسفة وعلماء الاجتماع الأوروبيين (Spengler, 1964).


اللغة واللسانيات: مساهمات الخليل وسيبويه في الظل

الخليل بن أحمد (718–786م) وسيبويه (760–796م) أسسا قواعد اللغة العربية ونظموا علم العروض والنحو. نظرياتهم أثرت في اللغويين الأوروبيين، لكن مراجع اللسانيات الغربية تفتقر إلى ذكر واضح لإسهاماتهم (Versteegh, 1997).


الجغرافيا والملاحة: كيف استُخدمت خرائط الإدريسي ومهارات ابن ماجد بلا نسب

الإدريسي (1100–1165م) وضع خرائط جغرافية دقيقة استُخدمت في أوروبا لعدة قرون، لكنه غالبًا ما يُذكر كمرجع ثانوي في التاريخ الجغرافي الأوروبي (Ahmad, 1960).

ابن ماجد (1432–1500م)، خبير الملاحة، ساعد الرحالة الأوروبيين مثل فاسكو دي غاما، لكنه لا يُذكر بشكل كاف في تاريخ الملاحة الغربية.


النظام العددي والصفر: سرقة الخوارزمي وغياب الاعتراف بالرقم صفر

الخوارزمي أدخل النظام العشري والصفر إلى أوروبا من خلال الترجمات، وهو ما مكّن تطور الرياضيات والحوسبة الحديثة. رغم ذلك، يُنسب النظام العشري أحيانًا إلى الرومان أو الأوروبيين القدماء (Ifrah, 2000).


الخاتمة

الاستيلاء على إنجازات الحضارة الإسلامية من قبل الغرب ليس مجرد سوء فهم، بل هو ظاهرة متعمّدة تندرج ضمن استراتيجيات سياسية وثقافية أوسع تهدف إلى تعزيز الهيمنة الغربية على المعرفة العلمية. إعادة الاعتراف بمساهمات العلماء المسلمين ضرورة تاريخية وأخلاقية، تساعد على بناء فهم أكثر شمولية لتاريخ العلوم وتعزيز التعاون الثقافي بين الشعوب.


المراجع (مختارة)

  • Saliba, G. (2007). Islamic Science and the Making of the European Renaissance. MIT Press.

  • Sabra, A. I. (1989). The Optics of Ibn al-Haytham. Warburg Institute.

  • Lindberg, D. C. (1976). Theories of Vision: From Al-Kindi to Kepler. University of Chicago Press.

  • Rashed, R. (1994). The Development of Arabic Mathematics. Springer.

  • Katz, V. J. (2009). A History of Mathematics: An Introduction. Pearson.

  • Pormann, P. E., & Savage-Smith, E. (2007). Medieval Islamic Medicine. Edinburgh University Press.

  • Fakhry, M. (2002). A History of Islamic Philosophy. Columbia University Press.

  • Nasr, S. H. (2006). Science and Civilization in Islam. Harvard University Press.

  • Spengler, J. J. (1964). Economic Thought of Islam: Ibn Khaldun. Comparative Studies in Society and History.

  • Ahmad, S. M. (1960). Al-Idrisi and the World Map. The Geographical Journal.

  • Ifrah, G. (2000). The Universal History of Numbers. Wiley.

  • Versteegh, K. (1997). The Arabic Language. Edinburgh University Press.

  • Huff, T. E. (2003). The Rise of Early Modern Science: Islam, China and the West. Cambridge University Press.


هل تود نسخة ملفية من هذا النص (مثل ملف Word أو PDF)؟ أم تريد إضافة توثيق تفصيلي أو فصول أخرى؟