صناعة السيارات‏..‏ وقرن من جهد ملايين العاملين

مصر - عندما وقف الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش يعلن عن خطته المالية لانقاذ شركتي كريزلر وجنرال موتورز‏,‏ قال إنه يقدم للشركتين‏14‏ مليار دولار كخطة انقاذ مالية‏,‏ بشرط أن تقوم ادارتا الشركتين باعادة التخطيط لعملهما حتي نهاية شهر مارس‏2009,‏ ثم بشرط ثان‏,‏ أن تتعاون كل الاطراف ذات العلاقة بالعمل‏,‏ الادارة والمساهمين والنقابات‏,‏ لوضع خطة الانقاذ هذه‏,‏ لا أتذكر أن الرئيس السابق قد ذكر كلمة نقابات طوال فترتي حكمه الممتد لدورتين رئاسيتين‏..‏ لا أتذكر‏,‏ إنما الذي أعرفه جيدا أن أجور العمال الأمريكيين قد فقدت الكثير من قيمتها الفعلية طوال مرحلة التطور التاريخي التي مرت بها الرأسمالية الامريكية لتتحول إلي رأسمالية كونية‏,‏ وهي المرحلة التي تبلورت خلال دورتي رونالد ريجان‏,‏ أي بدءا من عام‏1980.‏ هذا ما أعرفه جيدا‏.‏

كما أعرف ان النقابات الامريكية مرت بأصعب فترات نشاطها بدءا من رئاسة الرئيس رونالد ريجان‏,‏ وأن كل محاولاتها الساعية إلي إعادة الحياة إلي صلب مفاهيمها الاساسية التي نشأت عليها مثل حقوق المفاوضة الجماعية وعقد اتفاقيات العمل المشتركة لم تكلل بقدر النجاح الذي حققته في السابق‏.‏

لذلك تعجبت عندما تذكر الرئيس السابق النقابات الامريكية في هذه الازمة التي تحاول الادارة الامريكية حلها من خلال سحب المتحصل من دافعي الضرائب‏,‏ بكل تنوعهم الاجتماعي‏,‏ لتحويله إلي قروض مالية لشركتين فاشلتين اداريا‏,‏ بشرط أن تتعاون الاطراف الثلاثة المذكورة من أجل تنفيذ الحل بما يعني أن العمال في المصنعين سيتحملون جزءا من هذه المسئولية‏,‏ أي أن علي النقابات أن تقبل خفض أجور وحوافز عمالها‏.‏

في هذا المجال شدني جزء من خطاب الرئيس الجديد باراك أوباما الذي تحدث فيه عن تضحيات العمال المنسجمة مع طبيعة الشعب الامريكي في العقيدة والاصرار ووصفها بأنها تنسجم مع لا أنانية العمال عندما يفضلون عدم تخفيض ساعات عملهم مقابل عدم فصل زملاء لهم‏.‏ وهذا صحيح‏.‏

في الولايات المتحدة الامريكية يرددون الآن عبارة سياسية لطيفة تلائم الأحداث الجارية في بلادهم والتي سيكون لها انعكاساتها علي غالبية الاقتصاديات الاخري‏,‏ يقولون ان المكاسب والأرباح‏,‏ تخصخص لتستفيد منها الأقلية‏,‏ أما الخسائر فتخضع للشراكة ليساهم في تحملها الجميع‏.‏ وهو بالتحديد ما عبر عنه تصريح الرئيس الامريكي السابق‏,‏ استمر يتجاهل النقابات في حالات الرخاء ولكنه تذكرها فجأة في حالات السعي لحل الأزمات‏,‏ نسي العمال عند جني الارباح‏,‏ ثم تذكرهم عند توزيع التضحيات‏,‏ بالرغم من أن أجور عمال السيارات في الشركات العملاقة الكبيرة في ديترويت لاتزيد علي نسبة‏10%‏ من تكلفة السيارات‏,‏ فأجور العمال ليست سبب الأزمة‏.‏

لست معنية بحال الادارات الرأسمالية الجشعة أو مستقبل أفرادها المالي‏,‏ لانهم كأفراد يملكون ما يكفيهم ويزيد‏,‏ يملكون المدخرات والقصور والسيارات واليخوت والطائرات الخاصة‏,‏ ولكني معنية بناتج جهد الاجراء الذين عملوا ولايزالوا يعملون في الصناعات الكبيرة هذه التي توظف عاملا من كل عشرة عمال أمريكيين‏,‏ أولا لأنهم استمروا يقدمون جهدهم‏,‏ العضلي‏,‏ والذهني‏,‏ والتنظيمي حتي تطورت هذه الصناعة وبلغت هذه الدرجة من النمو‏,‏ ثانيا لانهم لايملكون إلا هذا الجهد المبذول ليحققوا تلك الاجور التي يتحصلون عليها‏,‏ ثالثا لاني معنية بمستقبل النقابات التي ينتظم في عضويتها هؤلاء الأجراء‏,‏ وهي النقابة المعروفة في الولايات المتحدة باسم الـ‏uaw‏ أي اتحاد عمال السيارات المتحدين‏,‏ وهي النقابة التي تدخل ضمن القسم من التنظيم النقابي الذي يضم عمال الصناعات الهندسية والميكانيكية‏,‏ أي الكتلة العمالية الأكثر قدرة علي الانتظام والتنظيم والتحرك الاجتماعي العام‏.‏

في الولايات المتحدة الامريكية‏,‏ تطورت هذه النقابة في خط متواز مع تطور صناعة السيارات ذاتها‏,‏ في البداية بدأ ظهور هذه الشريحة من العمال المتخصصين مع التطور الذي أدخله هنري فورد‏,‏ الجد الأكبر لعائلة فورد‏,‏ قبل أكثر من مائة عام‏,‏ عندما أوجد هنري فورد خط الانتاج وطوره‏,‏ فحول ورش إنتاج السيارات من كونها صناعة حرفية تنتج العدد القليل من السيارات المرتفعة الثمن إلي صناعة كثيفة الانتاج تنتج العدد الكثير منها بأسعار أصبحت في متناول شرائح أوسع من المواطنين‏.‏ هذا التحول في فن انتاج السيارات حول المنتج من صانع حرفي إلي عامل خط انتاج يعمل في اطار من شروط وظروف عمل تختلف عن تلك التي كان يعمل في ظلها الصانع الحرفي القديم‏.‏ وهو الظرف الموضوعي لنشأة التنظيم النقابي في أي من الصناعات‏.‏

وعندما يتحدث الامريكيون عن صناعة السيارات يقولون إن هنري فورد الجد الاكبر‏,‏ هو الذي وضع الناس علي العجلات بمعني أنه هو الذي أنجز التحول الصناعي الكبير الذي أتاح لعموم الناس امتلاك وركوب السيارات‏.‏

من لم يستطع امتلاك احداها‏,‏ استخدمها كوسيلة انتقال عامة‏,‏ وهذا صحيح فهنري فورد الجد الاكبر هو صاحب الورشة الصغيرة التي بات أحفاد أحفاده يمتلكونها الآن كأكبر وحدات صناعة السيارات في مدينة ديترويت‏.‏ عند تسجيل تاريخ صناعة السيارات أو تاريخ نقابات عمال السيارات الامريكية عادة ما يأتي اسم هنري فورد‏,‏ الجد الأكبر في مقدمة الكتاب وعادة ماتوضع ضمن الصفحات صورته الشمسية القديمة وهو يرتدي القبعة والصديري والبوبيون والحذاء عالي الرقبة‏,‏ وقد وقف مزهوا بجانب احدي السيارات الصغيرة الخارجة من مصنعه‏.‏

بعد هنري فورد‏,‏ يسجل تاريخ هذه الصناعة اسم ولتر روثر الامين العام لاتحاد عمال السيارات المتحدين الذي انتخب عام‏1947‏ ثم أصدر كتيبا يشير فيه إلي عمال صناعة السيارات علي أنهم مهندسو المستقبل الامريكي حينذاك‏,‏ قدم مشروعه الخاص بانتاج سيارة صغيرة لاتستهلك وقودا كتلك السيارات الكبيرة الفارهة‏,‏ لكن شركات السيارات رفضت اقتراحه لانه لم يكن يحقق لها الأرباح التي كانت تسعي إليها‏,‏ وقد بدأت الآن بعض الصحف الامريكية تلقي الضوء علي الكتيب القديم وعلي اقتراحه‏,‏ وكان ولتر روثر من النقابيين المالكين للأفق الاجتماعي الواسع‏,‏ دعم كل الحركات الديمقراطية العامة منها محاولة عمال المزارع الصغيرة في انشاء نقاباتهم والحركة الطلابية عند إحتياجها للأموال كذلك الحركات النسوية القومية‏.‏

والاعتراف بتضحيات العمال الامريكيين هو اعتراف بالتاريخ وبالواقع فنشأة الطبقة العاملة الامريكية لم تكن نمطية كغيرها من الطبقات وإنما أسسها منذ القدم عمال نقلوا من أوروبا إلي العالم الجديد مقابل دفع جزء من أجورهم اليومية لصاحب السفينة التي نقلتهم‏,‏ وذلك مدي الحياة‏,‏ وكان يطلق عليهم تعبير العمال المدينون وكانوا من ذوي البشرة البيضاء ثم من العبيد ذوي البشرة السوداء الذين تحرروا علي يد إبراهام لنكولن في سبعينيات القرن التاسع عشر‏,‏ جذور تستحق كل الاحترام والتقدير‏.‏ صناعة عظيمة وعمال قدموا جل التضحيات الحياتية ونقابات نشيطة تملك رؤية صناعية وعمالية‏,‏ يتعرض كل هذا للانكسار بسبب ادارات فاسدة منفلتة‏,‏ خسارة كبيرة‏.‏

منقول من جريدة "الأهرام"


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة