صناعة الزجاج..من أهم الصناعات التقليدية فى فلسطين

تحتل الصناعات التقليدية الفلسطينية مكانة خاصة بين فروع الصناعة في فلسطين، نظرا للبعدين التراثي والاقتصادي اللذين تحملهما هذه الصناعة، فهي من جهة تعبر عن تاريخ وثقافة الشعب الفلسطيني حيث تجسد الوجود الفلسطيني علي أرضه عبر حضارات متواصلة، ومن جهة أخري تشكل هذه الصناعات مصدرا حقيقيا لتنمية الدخل الوطني إذا ما تم استغلالها وتطويرها بالشكل المطلوب.

ففلسطين لم تحظ بوافر من الثروات الطبيعية الثمينة كالذهب والبترول، إلا أن الله قد من عليها بكونها مهدا للديانات السماوية وعلي أرضها نمت وترعرعت العديد من الحضارات التي تركت أثرها حتي يومنا هذا مما جعلها قبلة للسياح والحجاج علي اختلاف مذاهبهم وطوائفهم.

تعرف الصناعات التقليدية بأنها تلك الصناعات ذات الامتداد التاريخي التي تقوم علي تحويل المواد الخام إلي منتج مصنع يعكس طابعا تراثيا فلسطينيا بحيث تحمل هذه المنتجات تعابير وملامح تاريخية ودينية.

وتعتبر صناعة الزجاج من أهم الصناعات التقليدية الموجودة في فلسطين والتي يتراوح عددها بين 17 حرفة تقليدية، ويوجد شبه تأكيد علي أن صناعة الزجاج بدأت في فلسطين منذ عهد الرومان وكانت سائدة في عهد الفينيقيين واستمرت إلي يومنا هذا.

ويقول نادر جلال التميمي رئيس اتحاد الصناعات التقليدية والسياحية في فلسطين بأن ما يميز الزجاج الفلسطيني عن غيره هو البعد الروحي والديني والتاريخي نظرا لصناعته في الأراضي المقدسة.

ويوجد في فلسطين حوالي ستة مصانع للزجاج، يوجد نصفها في مدينة الخليل حيث تشتهر المدينة أكثر من غيرها في فلسطين بتلك الصناعة وواحد في مدينة غزة وواحد في نابلس وآخر في أريحا.

مواد خام محلية

وتعتمد هذه الصناعة كما يقول التميمي علي المواد الخام المحلية التي غالبا ما تكون من مخلفات الزجاج لذا فهي صناعة صديقة للبيئة، ويتم الحصول علي مخلفات الزجاج من الباعة الذين يجمعون زجاجات المياه الغازية الفارغة أو من تجار الزجاج.

ويستعمل الزجاج المنتج في فلسطين للزينة وكتحف أكثر منه استعمالا عمليا وذلك بسبب ارتفاع أسعار الزجاج التقليدي، حيث يتوجه البعض لاستعمال الزجاج الرخيص المتوفر في الأسواق للاستعمالات العادية، إلا أن البعض الآخر والذي يعتبر محبا للرفاهية فيفضل استعمال الزجاج التقليدي نظر لارتفاع ثمنه ودقة عمله وجمالية منظره.

ويضيف التميمي بأن صناعة الزجاج في فلسطين تعتبر مهنة متوارثة من الأجداد إلي الأحفاد لأنها تحتاج إلي سنوات وخبرة لتعلمها إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبحت هناك دورات وورش عمل يتم من خلالها تعليم تلك الحرفة لمن يرغب .

ولعل من أهم متطلبات العمل في مهنة الزجاج هو تحمل مشقة العمل أمام أفران الصهر وتوفر الروح الإبداعية والفنية التي تؤهل العامل لاكتساب مهارات التشكيل، لذا لا يوجد الإقبال الكافي لتعلم تلك الحرفة وانتشار تلك الصناعة بالشكل الكافي حيث يفضل الكثيرون الانصراف إلي مهن أقل مشقة وأكثر دخلا علي حد قول التميمي.

وتشارك المصنوعات الزجاجية التقليدية المنتجة في فلسطين في العديد من المهرجانات والمعارض المحلية والعالمية والتي يتم المشاركة بها بواسطة المؤسسات الحكومية التي تشجع القطاع الحرفي، والإقبال علي تلك المعارض يعتبر كبيرا جدا وتلاقي تلك المصنوعات استحسان الزائرين لتلك المعارض ، ويقدر الإنتاج السنوي للزجاج التقليدي الفلسطيني بمليون دولار سنويا، وتتوزع أسواق منتجات الزجاج اليدوي بالشكل التالي: 50% تسوق إلي إسرائيل، 40% تسوق إلي أوروبا عبر المعارض بشكل خاص، و 10% تسوق إلي الدول العربية وبشكل أساسي الأردن.

معوقات إسرائيلية وفنية

وعن المشاكل التي تواجه حرفة الزجاج يقول التميمي بأن الوضع السياسي الراهن أثر بشكل كبير علي تلك الصناعة وذلك من خلال الحصار المعلن علي الأراضي الفلسطينية أو من خلال الحواجز المقامة بين مدن فلسطين نفسها بالإضافة إلي المعوقات التي تضعها إسرائيل أم الشاحنات التي تكون محملة إلي داخل إسرائيل أو من خلال المعوقات علي حركة التصدير إلي الخارج، كما أن قلة الكوادر البشرية العاملة في تلك الحرفة يقلل من الإنتاج بشكل عام، يضاف إليها المنافسة المحلية التي تضر بالمنتج نفسه حيث يعمد بعض أصحاب التجار إلي بيع المنتج بأقل الأسعار حتي لو أدي ذلك إلي الخسارة بهدف المنافسة لا أكثر، موضحا أن المنافسة الأجنبية لا تكاد تكون مشكلة تذكر أمام تقدم الزجاج التقليدي لأن كل له زبائنه ومحبيه.

ويرفض التميمي رفضا قاطعا حول ما يروج بأن حرفة الزجاج وغيرها من الحرف التقليدية في طريقها إلي الانقراض، بل علي العكس يري بأن تلك الحرفة في طريقا إلي الاشتهار أكثر وأكثر والي المزيد من التقدم، حيث تشهد تلك الصناعة إقبالا كبيرا من الناس عليها ممن يقدرون جمالية الحرف التقليدية، كما أن الكثيرين يحبون أن تتواجد في بيوتهم قطع تقليدية قديمة تذكرهم بأصالة الماضي وتشعرهم بارتباطهم بأرضهم ووطنهم.

جولة في مصنع

وخلال جولة في أحد مصانع يمكنك أن تشاهد طريقة صنع الزجاج التقليدي، غاية في الروعة والجمال ودقة متناهية لا يستطيع أيا كان أن يبدعها.

فرن كبير تصل درجة الحرارة فيه إلي 1400 درجة وهي درجة حرارة مرتفعة جدا لا يستطيع أحد احتمالها، يجلس الحرفي أمام الفرن واضعا قبالته مروحة كبيرة علها تخفف القليل من وهج الفرن الحارق.

يتم وضع كمية كبيرة من الزجاج تصل إلي 800 كيلوغرام في الفرن المصنوع من الطوب الحراري ويبدأ تشغيل الفرن الذي كان قديما يتم إشعاله بواسطة الحطب لكن تم إدخال تعديلات عليه فأصبح يشعل بالكهرباء لإبقائه مشتعلا حوالي الساعة الثالثة فجرا ليبقي مشتعلا حتي الساعة التاسعة مساء ليتم صهر وإذابة كمية الزجاج كلها، بعد ذلك يخرج الحرفي الزجاج المنصهر من الفرن ويشكله قطعا ثم يضعه في فرن آخر درجة حرارته أقل ليبرد تدريجيا ويتم تشكيله حسب الطلب، ويكون لون الزجاج المنصهر بالعادة مائلا إلي البياض ولكن خلال ثوان يأخذ لونا معينا ولعمل زجاج بألوان مختلفة يتم إضافة صبغات ملونة إلي الزجاج بحسب القطع المراد تصنيعها.

ويستعين الحرفي بماسورة من الحديد يمسك بطرفها الزجاج الذائب من الفرن ويقوم من خلال تلك الماسورة بالنفخ فيه كما يستعين بمقص ليقص القطعة وبماسورة أخري لإخراج كمية صغيرة من الزجاج يعالجها لتشكل مقبضا للقطعة الأصلية.

ويلوح الحرفي بالماسورة بالهواء لتعطيه خلال لحظات الشكل الذي يريد وكأنها عصا سحرية يهمس الحرفي من خلالها لتعطيه ما يتمني من أشكال رائعة وتحف متناهية الجمال، ويسير العمل علي تلك الشاكلة حتي تنتهي كمية الزجاج المنصهر بأكملها ليطفأ الفرن ويعاد تشغيله في اليوم التالي.

تلك هي حكاية الزجاج التقليدي الفلسطيني، حرفة منذ آلاف السنين لا زالت تمارس حتي يومنا هذا، بدون كلل وملل، تبدع فيها أنامل فلسطينية لتخرج إلي العالم قطع فنية لا يمكن أن تجد لها مثيلا في الحضارة الجديدة اليوم مهما بلغت التكنولوجيا من تطور فالحرفة التقليدية لها جماليتها الخاصة التي لا يمكن أن تلغي.

منقول من "مجلة أقلام الثقافية"


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة