الحرفيون ودورهم التاريخي في تطـور المدينة العربية الإسلامية

‏ يعد موقف الإسلام والدين من الصناعة والحرف موقفاً واضحاً لا لبس فيه فالعمل كان ولايزال هو ميزان تقدم الأمة، والمهارة في إتقانه هي مقياس الحضارة، والوفاء بالعمل هو الهدف الذي يسعى إليه الإصلاح الاجتماعي. قال الرسول (ص): إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

مقدمة:

موقف الإسلام والدين من الحرفيين:‏

يعد موقف الإسلام والدين من الصناعة والحرف موقفاً واضحاً لا لبس فيه فالعمل كان ولايزال هو ميزان تقدم الأمة، والمهارة في إتقانه هي مقياس الحضارة، والوفاء بالعمل هو الهدف الذي يسعى إليه الإصلاح الاجتماعي. قال الرسول (ص): إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وحضّ الدين الإسلامي على العمل، وأكد حرمته. وجعل الإنتاج عبادة وتقرباً إلى الله، بل جهاداً في سبيل الله. قال تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"(1) وأكد الله عظمت قدرته حماية الدولة لحقوق العمال ثم إعطاء كل عامل على قدر ما يستحق من إتقان "فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض"(2). وقال سبحانه: "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون"(3)، وقال تعالى: "وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى"(4). وأن ليس للإنسان إلا ماسعى، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزيه الجزاء الأوفى"(5). أفضل الأعمال الاكتساب للانفاق على العيال. وفي الحديث الشريف "طلب الكسب فريضة على كل مسلم، كما أن طلب العلم فريضة"(6).‏ وجاء عن الخليفة عمر (رضى الله عنه) "أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول هل له حرفة؟ فإن قالوا لاسقط من عيني." ومن شروط العمل الصالح في الإسلام إتقانه على الصعيدين الفني والعملي وعدم الغش فيه لأن ذلك يلحق الضرر بالأفراد والمجتمع، ثم إنجازه في موعده المحدد، وأن لايخادع به ولا أن يكذب، ولا أن يحلف الأيمان الكاذبة لأجله. قال محمد (ص) اليمين الفاجرة منفعة للسلعة ممحقة للكسب "هذا التوجه العام الإسلامي، ساعد على ارتقاء الحركة الحرفية والصناعية وتطورها وانخراط العرب في الصناعة ووصولهم للمهن واستلامهم زمام الأمور فيها، وبعد أن كان العربي يأنف من العمل في الحرف، وينظر إلى العاملين بها نظرة ازدراء، لأنها في عرفهم حرف وضيعة خلقت للعبيد والموالي ولاتليق بالأحرار، وكان الشريف منهم وصاحب الجاه لايحضر وليمة يدعوه إليها رجل من أصحاب هذه الحرف وذلك لأنه ليس في مكانته ومنزلته، وجاء الإسلام ليغير هذا المفهوم ويعمل الرسول (ص) لقلب هذه المفاهيم وعد حضوره منازل أصحاب هذه الحرف وقبول طعام الخياط والصائغ وأمثالهما، عملاً فيه خروج عن المألوف ومخالفاً للأعراف والتقاليد التي كانت تحتقر الحرف والمحترفين وتحط من مكانتهم.. وبعد أن كان العربي يرفض الأسماء التي لاتدل على الأصل والحسب، ويحتقر النسبة إلى الصناعات كالصباغة والحدادة وغيرهما(7).‏

ثانياً- النشأة التاريخية للحرف في الوطن العربي في ظل الإسلام:‏

فما أن جاء الإسلام حتى رفع مكانة العمل والعمال والصناع بوجه عام، وشيئاً فشيئاً بدأت الحرف تلقى القبول وينخرط فيها العربي كغيره، وتبدأ منذ القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي. بدؤوا يقبلون أسماء وألقاباً تدل على الصنعة. وغدونا، نسمع، ونرى، ونجد أحمد الحداد وجعفر البقال وسعد الغزّال، وتأكد هذا فعلاً خصوصاً منذ بداية العاشر الميلادي. ولانستغرب أن يأنف العربي من بعض الصناعات ويعدّها غير لائقة لاستعمالها بعض المواد غير النظيفة كالدباغة مثلاً، كما عدّوا الصباغة مخالفة لقواعد الدين، ولهذا كان الصيارفة، والصباغون من اليهود في معظم مناطق الدولة الإسلامية، خصوصاً في بلاد الشام(8). لكن التوسع الذي حدث بعد انتشار العرب المسلمين بين الموالي وأهالي البلاد المفتوحة، وعمليات الاختلاف والتمازج التي تمت بين الأقوام المختلفة التي انضوت تحت راية الإسلام أدى إلى عمل الجميع على الحفاظ على التراث الحضاري القديم في الميادين المختلفة، كما ساهم العرب وغيرهم في تطوير الصناعة الحرفية.‏

ثالثاً- علاقات السلطات العربية الإسلامية بالحرفيين:‏

قامت السلطات العربية الإسلامية بواجباتها تجاه الحرفيين، وكفلت لعمالها من أرباب الحرف والصناعات حرية واسعة في ممارسة أعمالهم، ولم تتدخل فيها إلا على نحو محدود، وفي الصناعات التي كان يتطلب قيامها الحصول على إذن خاص مثل إنشاء حمامات، وصنع الأسلحة وسك النقود، وتركيب الأدوية، والعمل في دور الطراز، وكل ذلك يعود إلى أسباب تتعلق بالأمن الجماعي، والمصلحة العامة(9).‏
وتقدمت الصناعات الحرفية بتوالي الأجيال، ووفرة المواد الخام الزراعية والمعدنية، وتقدم العمران البشري في المدن الإسلامية غير أن الصناعات استمرت تعتمد على الصناعات اليدوية، وبقيت السلع تصنع في الورش وفي البيوت أو في المحال والحوانيت، وكان العامل يبدي في هذه الورش الصناعية مهارة وخبرة وصبراً مما أعطى الإنتاج على الرغم من قلته صفة الاتقان وطابع الطلاوة(10). لكن استمرت الحالة العامة للعمال اقتصادياً على الأغلب متواضعة، وتكفي ضرورات الحياة المعيشية فقط، واستمرت متفقة مع القول المأثور (صنعة في اليد أمان من الفقر، وأمان من الغنى) ولهذا عد أهل الحرف في عداد العامة أو الفئات الدنيا في المجتمع الإسلامي.‏
وعلى هذا الأساس لانستغرب أن تكون الصناعة وأربابها موضع عطف واهتمام الكثير من المفكرين والكتاب العرب المسلمين، وقام هؤلاء وأفردوا لها الفصول والرسائل في مؤلفاتهم، ومثال ذلك مانجده في رسائل إخوان الصفا، ثم صاغه فيما بعد المؤرخ والعالم الاجتماعي الكبير ابن خلدون عن الصنائع في مقدمته.‏

رابعاً- الصناع وطوائف الحرف، والأصناف ودورهم التاريخي‏ في تطوير المدينة العربية الإسلامية:‏

أ- المدينة:‏

تشير الأبحاث اللغوية إلى أن كلمة مدينة تعود أصلاً إلى كلمة "دين" ولهذه الكلمة أصل عربي وهي آرامية الأصل وعرفت عند الأكاديين والآشوريين "بالدين" أي القانون كما أن الديان في اللغة الآرامية "القاضي" وأن مصدرها في الآرامية "مدنيتا" وتعني القضاء ولهذا يرجح أنها تطلق خاصة على المكان الذي يكون فيه القضاء دليلاً على معنى القانون أو العدالة، ولعل كلمة (ديان) جاءت منه بمعنى القاضي أو المحاسب، وورد في سنن البيهقي عن الخليفة الفاروق قوله (ويل لديان الأرض من ديان السماء) وهي المكان الذي يؤمن فيه العدل والأمن أكثر من غيره، فهي مقر السلطة الحاكمة التي تقيم الحدود، وتنفذ فيها الأحكام. ويسير في الاتجاه نفسه تعريف بعض الجغرافيين (المصر) حيث يورد المقدسي(11) (أنه كل بلد جامع تقام فيه الحدود وعليه أمير يقوم بنفقته ويجمع رستاقه) كما يتصل التفسير الفقهي للمدينة أيضاً بهذا المفهوم إذ ان أبا حنيفة ذكر (أن صلاة الجمعة إنما تختص بها الأمصار دون غيرها، وأنه لايجوز إقامتها في القرى.‏
واعتبر أن المصر هو المكان الذي يوجد فيه سلطان يقيم الحدود وقاض ينفذ الأحكام. والمدينة لاتسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت مقراً لصاحب السلطان، أو من يمثله، فإن كان الخليفة كانت المدينة، وإن كان والي إقليم أو كورة فالمدينة عاصمة هذا الإقليم أو الكورة، وإن كان السلطان قائداً على الثغور فالمدينة قاعدة لهذا الثغر أو حصناً استراتيجياً فيه. وفي المدينة تجمع الأعداد الكبيرة من العمال والحرفيين من مختلف الأجناس والأديان ويسكنون بمساكن متقاربة، ويتصلون بعضهم ببعض في حياتهم اليومية في الأسواق تجمعهم روابط اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية وظروف حياتية متقاربة، كل في مجال تخصصه، وهذا ماساعد على قيام نظام الحرف والطوائف والتكتلات الصناعية التي عرفت بأسماء متعددة، مثل الأصناف، وأرباب الصنائع وأصحاب المهن أو أهل الحرف، وهي كلها تعابير تعطي معنى الجماعة لأبناء الصنعة الواحدة وفي المدينة العربية الإسلامية ونموها وتطورها وتقدمها وتوسع الحياة الاقتصادية وتعقدها، ازداد الشعور المشترك بين أصحاب كل حرفة، وصار لهم فيها نظام أو عرف يكفل لهم الحماية من المنافسة ويرفع من مستواهم المادي والفني، ويعمل على تدريب الأبناء الجدد أو المبتدئين في الصنعة، وتهيئتهم التهيئة المناسبة واللازمة للمهنة، لكي يكون إنتاجهم في غاية الكمال، وبذلك حدث التطور في المدينة وترقى المدينة بإنتاج حرفيها وتصبح مركز جلب للحرفيين المهرة.‏

ب-الشكل التنظيمي للحرفة:‏

كان لكل حرفة رئيس أو شيخ لقب بالأمين في المغرب، والأسطى أو المعلم في مصر والعريف في الشام ومناطق أخرى، وكان تعيين رئيس الحرفة أو الطائفة أو شيخها، يتم إما بالاختيار أو الانتخاب، وبحضور المحتسب وموافقته، وهذا يدل على أن الدولة تتدخل في اختيار الرؤساء وشيوخ الحرف أو أنها تشرف الإشراف الدقيق على المهن وحسن سير الأمور فيها، وهذا الشيخ يعد الخبير الفني للمهنة أو الحرفة. ورأيه استشاري وهو مقبول عند القاضي والمحتسب، وهو الذي يقوم بإبلاغ الطائفة الحرفية المعلومات المطلوبة عن السلطة التي تخص مهنته، كما يؤخذ رأيه في تحديد كلف السلع وثمنها في أثناء البيع أو التقدير وغير ذلك من أمور متعلقة بالمهنة(12).‏
وكانت العادة أن يتدرج الصانع في الحرفة وتبدأ بالانتساب لها لمبتدئ أو لصبي صغير، ثم إلى عامل، أو صانع مدرب، وينتقل بعدها إلى أن يصبح معلماً. ومنها إلى الرئاسة.... ويتم ترقيته إلى رتبة المعلمية باحتفال رسمي، لما لهذه النقلة من أهمية تمكنه من الوصول إلى المعلمية والرئاسة، ويجري في هذا الاحتفال قراءة الفاتحة، والتراتيل الدينية، ثم تتم بعد ذلك مراسم الشد، وذلك لشد وسطه بحزام مع عقد عدة عقد من قبل كبار المعلمين الحاضرين هذا الاحتفال ثم يقوم بعد ذلك بارتداء ملابس خاصة يعرف بالسروال، ويوضع شال على كتفه، ويذّكر في هذا الاحتفال بواجباته المهنية ويؤخذ عليه العهود بالتزام هذه الواجبات وعدم الخروج عنها، والإخلاص لها، وهي بمجملها تستند إلى التحلي بمكارم الأخلاق وأهمها القناعة، والصبر، والتواضع، ومن ثم الإخلاص لعمله ومعلمه وأسرته وينتهي الاحتفال بعد تناول الطعام على شرف المحتفى به يقدمها لهم الصبي المرقى(13).‏

ت- وظائف الحرفيين أو الطوائف المهنية في المدن العربية الإسلامية:‏

ويمكن أن نجمل وظائف الحرفيين في المدن العربية الإسلامية بالمهمات الآتية:‏
1- تعليم أسرار المهنة للصبية، وتحديد علاقتهم بمعلميهم يشبه عقداً أو التزاماً بين المعلم والصبي.‏
2- المراقبة الفنية لجميع العاملين بالمهنة الواحدة، ومنع الغش وحماية المجتمع من التدليس الذي قد يحدث في سوء الصنعة.‏
3- المشاركة في تحديد الأجور وأسعار السلع. وفض المنازعات بين أفراد الطائفة الواحدة.‏
4-ويعد الشيخ أو الأمين أو العريف المسؤول عن الطائفة أمام ممثل السلطة الحاكمة في السوق، وهو على الأغلب المحتسب(14). في معظم المدن العربية الإسلامية، ويمكن أن تشبه أعمال هذه الطوائف أو الأصناف المهنية بنظام النقابات سواء في أوربا أو غيرها في بعض الأمور. لكن الهام أن هؤلاء الحرفيين بمجملهم كانوا من الطبقات العامة في المجتمع في المدينة العربية الإسلامية، وهم بحكم هذا الموقع أسهموا إسهاماً كبيراً في حياة المدينة والمجتمع. فيها فقد وجدناهم يشاركون في النشاطات كافة منها الإيجابية كالاحتفالات والمواكب العامة في الأعياد والمواسم وغيرها من الأفراح.‏
وكانت لهم نشاطات سلبية كانخراطهم في الثورات الشعبية، والمجمعيات السرية، والعمل ضمن توجهاتها وفرقها الدينية والعسكرية وغير ذلك.... ففي بلاد المغرب العربي انخرط معظم أهل الحرف في الطرائق الصوفية التي ظهرت بكثرة في الشمال الافريقي، وكما انخرط هذا النوع من الفتوة الصوفية في شرق الدولة العربية الإسلامية في خراسان ولاسيما في نيسابور. والتي عبر عنها عمر النيسابوري الحداد عام 260هـ/873م/ موضحاً هذا التوجه الصوفي بقوله: وسئل بعضهم من يستحق اسم الفتوة؟ فقال: من كان فيه اعتذار آدم، وصلابة نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق اسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود، وسخاء محمد (ص) ورأفة أبي بكر، وحمية عمر، وحياء عثمان، وعلم علي، ثم مع هذا كله يزدري نفسه ويحتقر ماهو فيه(15).‏
ولما كان إلى جانب هذا النشاط الصوفي التقشفي لهؤلاء الحرفيين لاسيما الفقراء منهم، نشاطات أخرى اتجهت اتجاهاً معاكساً واتصفت بطابع العنف أو اتجهت اتجاهاً سرياً، ومن الأمثلة على هذه التوجيهات إقبال العديد من أهل الحرف والصناع والانخراط في الدعوات السرية الاجتماعية كالقرمطية، ودعوتها التي قامت على حمدان قرمط وغيره بالعراق في القرن الثالث الهجري نتيجة لسوء التوزيع الاقتصادي والخلل الذي حدث في المجتمع من جراء ذلك، وقاد لتوسع الدعوة القرمطية، وقيام دولة لهم في البحرين، ونشاطها في العراق والشام، ووصل خطرها حتى مصر. وحظيت بتأييد كبير من أصحاب المهن والحرف والمعذبين، وتعرض المجتمع العربي الإسلامي لهزات عنيفة لانخراط الحرفيين بهذه الحركة وغيرها من الجماعات كالعيارين والشطار وغيرهم من الفتيان، والأحداث في شرق العالم الإسلامي وغربه والتي رفعت شعارات تطبيق المساواة والعدالة الاجتماعية، والاستيلاء على الأموال والثروات وبطرائق مختلفة، ولا أرى ضرورة لشرح هذه الطرائق. ولهذا لانستغرب أن يوصفوا بصفات مذمومة، كالرعاع- العراة الانذال اللصوص... على الرغم مما اتسموا به من صفات فروسية تبعدهم عن أخلاق اللصوص العاديين، وأهم شعاراتهم الثورة على السلطة وأصحاب الأموال، ورفض الأوضاع الاقتصادية السائدة، والتي كان العديد منهم يرون أنها خرجت عن الشعائر الإسلامية وعدالتها الاجتماعية، ومن خلال هذه الرؤية، وهذا التوجه أعطوا أنفسهم حق الاستيلاء عليها وتوزيعها على الفقراء منهم. وكانت معظم الحركات من عيارين وشطار، في بغداد، في الظاهر عصابات من اللصوص وضعت أمام نفسها نهب الحوانيت والأسواق وبيوت الأغنياء. لكن جذور الحركة هي في الواقع رغبة هذه الطبقات المنكوبة حالياً الثأر من الأغنياء نتيجة الانحطاط السياسي، والارتفاع في الأسعار، من دون أن يرافقه ارتفاع مماثل في الأجور، إضافة إلى احتكار المواد الغذائية من قبل التجار والأثرياء(16).‏
وأتم وصف للحرف والمهن والصنائع، ما نجده من رسائل إخوان الصفا، ففيها نجد الحرف مصنفة بأشكال مختلفة، ووفق أسس متعددة، وإخوان الصفا جمعية سرية سياسية دينية انتشرت في أقاليم كثيرة في القرن الرابع الهجري -العاشر الميلادي. وطرحت شعاراتها ضمن رسائل هدفت من خلالها إلى إسعاد النفوس وتهذيبها، ومايهمنا منها هنا أنها وجهت عنايتها خاصة إلى العمل وإلى الصناع، وأثنت عليهم وعلى شرف الصنائع والحرف وقالت: (إن من لاصناعة له متكبر كأولاد الملوك، أو أنه كسول جاهل، أو زاهد ورع لاتهمه أمور الدنيا، وصنف إخوان الصفا الصنائع حسب فائدتها على النحو التالي:‏
الصنائع الضرورية للمجتمع:‏
(كالزراعة الحياكة والبناء) ثم صنائع تأتي في الدرجة الثانية، فهي إما تابعة للأولى أو متممة لها ومكملة، فمثلاً لاتتم الحياكة إلا بالغزل، والغزل لايتم إلا بصناعة الحلج، فأصبحت صناعة الغزل وصناعة الحلج تابعة للحياكة، كما أن الخياطة لازمة لعمل الملابس من النسيج، فصارت الخياطة متممة للحياكة، ثم هناك ثالثاً صنائع للجمال والزينة، أمثال صنائع العطور والحرير والوشي، كما صنفوا الصنائع حسب موضوع الصناعة إلى نوعين:‏
أولاً- الصنائع الروحانية، وتشمل المهن الفكرية، ثم الصنائع الجمسانية وتشمل الحرف اليدوية،‏
وهذه صنفت إلى صنفين، الأولى التي يكون موضوعها بسيطاً: مثل الماء -كالسقايين والملاحين والسياحيين -الخ والتراب (كحفاري الآبار والأنهار والمعادن- الخ) والنار (كصناعة النفاطين والوقادين والمشعلين) والهواء (كصناعة الزمارين والبواقين والنفاطين اجمع) أو الماء والتراب (كصناعة الفخارين والغضارين، وجرابي اللبن).‏
ثانياً- النوع الثاني: الصنائع التي يكون موضوعها مركباً،‏
وهذه ثلاثة أنواع: وهي الأجسام المعدنية، ومنها (الصفارين والحدادين والرصاصين والصواغين) ثم النباتات، والصناعات من هذا النوع إما أن تتناول أصول النبات من الأشجار والقضبان والأوراق لصناعة النجارين والخواصين والبوارين والحصريين والأقفاصيين ومن شاكلهم أو أنها تتناول لحاء النبات كصناعة الكتانين ومن يصنع القنب والكاغد أو أن نتناول تمر الأشجار وحب النبات كصناعة الرقاقين، والقطارين والبزارين وكل من يخرج الادهان من ثمر الشجر وحب النبات، ثم الحيوان، والصناعات هنا عامة كصناعة الصيادين ورعاة الغنم والبياطرة، أو تتناول إنتاج الحيوان كصناعة الدباغين، والأساكفة، أو الطباخين، ومن الصنائع ما موضوعها أجساد الناس كصناعة الطب والمزينين ونفوس الناس كصناعة المعلمين(17).... كما صنف الإخوان الصنائع تصنيفاً.‏
ثالثاً- حسب قيمة إنتاجها فهي تتفاضل من حيث:‏
أولاً- قيمتها، والحاجة إليها، ثم فائدتها بالنسبة إلى الناس. كما صنفوها تصنيفاً رابعاً حسب الأدوات والآلات المستعملة فيها ولهذه الدراسات والتصنيفات فوائد جمة كثيرة فهي تدل على نطاق الصناعات الموجودة في عهدهم والفترات التي سلفت والأهم من ذلك أنها تلقي وتوجه الضوء على الفكر الاقتصادي في تلك الفترة... ويتضح أن المهن كانت وراثية، وكل صانع يفضل حرفته على جميع الحرف، ويوضح الجاحظ هذا التوجه(18) بقوله: لكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ماهم فيه وسهل ذلك عليهم، والحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذف أو خرقاً قال ياحجام، والحجام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال له: ياحائك، ومع كل هذا وذاك عدت بعض المهن شائنة حتى ينظر العامة مثل مهنة البوابين

ث-الخاتمة- الصناع والطوائف الحرفية:‏

وهؤلاء طائفة من الناس وصفوا بأنهم يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصور والنقوش والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلب العوض عن مصنوعاتهم لمصلحة معيشة الدنيا. وكان الصناع يقسمون من حيث العمل إلى فئتين، الأولى تضم المشتغلين بأجرة وهم الصناع الذين يعملون في المؤسسات الخلافية وفي دور الضرب أو في محلات التجارة الكبيرة، أما الفئة الثانية فهم يعملون لحسابهم الخاص بما في ذلك المبتدئون(20)... وكانت البضائع في أكثر الأحيان وراثية يأخذها الأبناء من الآباء، وفي حال تعلم الأبناء لصنعة الآباء والأجداد فإنهم يتقنونها(21) ويصبحون بارعين فيها، وعلى مايبدو أن أكثر المشتغلين بالصناعة كانوا من أهل الذمة. ولقد قويت فيما بعد الروابط الاجتماعية بين أصحاب الصنائع، وغدا كل صانع يشعر برابطة الانتماء إلى أصحاب حرفته وصنعته، وكثيراً ماعقد أهل الحرفة الواحدة الاجتماعات للتشاور والتباحث في أمور مهنتهم ثم أخذت تظهر فيما بعد تنظيمات لأهل الحرف تدفعهم لذلك ظروف المهنة، وأخذت هذه التنظيمات تميل نحو التكتل والتنظيم لتأمين مصالحهم المشتركة وكان لكل حرفة رئيس من بين أعضائها تعينه الحكومة أو شيخ الصنعة أو الرئيس، ويقوم بتنظيم أمور العاملين، ويعمل على حل المشكلات والخلافات التي تحدث في حرفته، كما كان يقوم بدور الوسيط بينهم وبين السلطة الحاكمة، ويليه الأستاذ وهو متقدم في المهنة ويأتي بعده الصانع وهو الذي يعلم المهنة، ويمكنه أن يفتح محلاً خاصاً به ويمارس عمله بصورة مستقلة، ويلي هذا المبتدئ، وهذا منتمٍ إلى الصنف ويقوم بالتدرب على أيدي الصانع، وكل هذا وذاك أدى إلى تنظيمات متطورة قادت إلى نشأة(22)النقابات الخاصة بالمهنة أو الحرفة والتي كانت تستهدف تبادل المعونة والدفاع عن مصالح الحرفة، وكان المحتسب يشرف على حسن سير الأعمال بكل حرفة.‏
وعاش معظم الحرفيين في المجتمع حياة متوسطة، وربما أدت بعض الظروف السياسية الخاصة إلى ضيق أحوالهم المادية، لهذا كثيراً ماكانوا يساهمون بدور نشط في الحركات الاجتماعية التي تقوم ضد السلطة الحاكمة، وهؤلاء كانوا يتطلعون لتحسين أحوالهم الحياتية والمعاشية وبذلك كانت حركة الحرفيين تعمل على ضبط إيقاع مسير الأنظمة التي تخالف التشريعات الإسلامية وإعادة هذه الأنظمة إلى جادة الصواب، وأيضاً كانت تمارس الأسلوب نفسه في ضبط سلوك الأغنياء.‏

المصادر المطبوعة:‏

1-القرآن الكريم.‏
2-البغدادي: الخطيب، البغدادي: (ت 463هـ/1070م) أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد: تاريخ بغداد أو مدينة السلام 14 جزءاً مطبعة السعادة القاهرة، 349 وطبعة مكتبة الخانجي القاهرة ص193 وطبعة دار الكتاب العربي، بيروت1931.‏
3-البيهقي: إبراهيم بن محمد، ت320/933م/ المحاسن والمساوئ، جزءان، تحقيق أبو الفضل إبراهيم القاهرة 1961.‏
4-الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255هـ/869م رسائل).‏
5-ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، ت808هـ/1405م مقدمة ابن خلدون طبع دار الشعب المصرية القاهرة. وطبعة منشورات الأعلمي بيروت 1971م.‏
6-الدمشقي: أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي (عاش في القرن السادس الهجري: الإشارة إلى محاسن التجارة دمشق 1318هـ.‏
7-الشيباني: محمد بن الحسن الشيباني (ت 189/1804 الكسب مخطوط تحقيق د.سهيل زكار طبعة أولى دمشق 1400هـ-1980م، ص19/33.‏
8-الصالح: صبحي النظم الإسلامية، نشأتها وتطورها، بيروت 1965 ط/2، 1968 .‏
9-إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، 4أجزاء بيروت سنة 1957.‏
10-المقدسي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري من علماء النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأخير من القرن العاشر الميلادي ت387/997م. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ليدن 1906.‏
11-أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم (112هـ/730) كتاب الخراج المطبعة السلفية القاهرة ط4، 1392هـ.‏
12-البراوي راشد: حالة مصر الاقتصادية في عهد الفاطميين مطبعة النهضة المصرية 1958م.‏
13-بورفنسال ليفي: ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة 1955، انظر محاضرات في الآداب الأندلسي وتاريخها، ص89.‏
14-الدوري عبد العزيز: النظم الإسلامية بغداد 950 تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (مطبعة المعارف بغداد 1948).‏
15-زيدان: جرجي تاريخ التمدن الإسلامي 5أجزاء مراجعة حسن مؤنس دار الهلال القاهرة 1968.‏
16-صالح أحمد العلي: التنظيمات الاقتصادية والإدارية في البصرة دار الطليعة بيروت ط1 1953، وط2 1969‏
17-ريسلر جاكس: الحضارة العربية ترجمة غنيم عبدون الدار المصرية للتأليف والنشر.‏
18-برنارد لويس: النقابات الإسلامية ترجمة عبد العزيز الدوري، مجلة الرسالة سنة 1940 الأعداد 355/356/362.‏
19-الدوري: عبد العزيز الدوري: نشوء الأصناف في الإسلام. مجلة كلية الآداب جامعة بغداد العدد1 سنة 1959م.‏
20-عاشور، سعيد عبد الفتاح: المجتمع الإسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية.‏
21-واضح الصمد: الصناعات والحرف عند العرب في العصر الجاهلي.‏
22-جواد علي: المفصل في تاريخ العرب ج7.‏
23-محمد عبد الستار عثمان المدينة الإسلامية مجلة عالم المعرفة- العدد 18 الكويت، آب 1988- ص17-47.‏
24-حلمي سالم: اقتصاد مصر الداخلي في العهد المماليكي.‏
25-كتاب الملانية للسلمي: مخطوط ببرلين عن جبر الزر النقر: بعنوان الفتوة هل هي الفروسية الشرقية -دراسات إسلامية بيروت 1960.‏
26-فهمي عبد الرزاق سعد: العامة في بغداد بلا تاريخ.‏
(1) قرآن كريم -التوبة 105.‏
(2) قرآن كريم -آل عمران 195.‏
(3) قرآن كريم -الأحقاف 19.‏
(4) قرآن كريم -الكهف 88.‏
(5) قرآن كريم -النجم 39/41.‏
(6) محمد الحسن الشيباني: الكسب، مخطوط، تحقيق سهيل زكار ط1 دمشق 1400 هـ. 1980 ص19/33/62 انظر صبحي الصالح، النظم الإسلامية ، نشأتها وتطورها، بيروت 1965 /ط52 1968، ص398.‏
(7) واضح الصمد: الصناعات والحرف عند العرب في العصر الجاهلي، ص201-202- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب ج7-ص543.‏
(8) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري من علماء النصف الثاني من القرن الرابع أو النصف الأخير من القرن العاشر الميلادي ت 387هـ/997م: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم لبدن 1906، ص183، انظر الأمير علي الحسيني: تاريخ سورية الاقتصادي مطبعة بدائع الفنون -دمشق 134هـ ،ص 93.‏
(9) صالح أحمد العلي: التنظميات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، ص302.‏
(10) جاك ريلر: الحضارة العربية، ترجمة غنيم عبدون، الدار المصرية للتأليف والنشر، ص118.‏
(11) المقدسي: المرجع الرابع، ص47. انظر محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية- مجلة عالم المعرفة، ص17/47- العدد 128 الكويت آب 1988.‏
(12) ليفي بروفنسال: محاضرات في أدب الأندلس وتاريخها، ص89.‏
(13) برنارد لويس: النقابات الإسلامية "ترجمة الدوري" مجلة الرسالة سنة 1940 الأعداد 355/357/362/. انظر سعيد عاشور: المجتمع المصري في عهد سلاطين المماليك ص36، وحلمي سالم: اقتصاد مصر الداخلي في العهد المماليكي: ص196.‏
(14) راشد البراوي: حالة مصر الاقتصادية في عهد الفاطميين ص194/197.‏
(15) ورد هذا النص في كتاب الملامنية للسلمي، مخطوطة ببرلين عن جير الدز.‏
النفر: الفتمنقفول من وة هل هي الفروسية الشرقية -دراسات إسلامية: ص220، بيروت 1960.‏
(16) جرجي زيدان: التمدن ج5، ص47- الدوري: تاريخ العراق ص68.‏
(17) إخوان الصفا، ج ص113-115/220- الفارابي إحياء العلوم.‏
(18) الجاحظ رسائل، ص146- الدوري تاريخ، ص88.‏
(19) الدمشقي: الإشارة، ص42/43.‏
(20) إخوان الصفا: رسائل، ج1، ص217- الدوري: نشوء الأصناف والحرف في الإسلام، ص153. مقال، مجلة كلية الآداب بغداد، عدد لسنة1959.‏
(21) إخوان الصفا: رسائل، ج ص223، أبي يوسف الخراج، ص64/69. البغدادي: تاريخ البغدادي ج1، ص176- أحمد صالح علي: التنظيمات الاجتماعية في البقرة ص92.‏
(22) عبد العزيز الدوري: نشوء الأصناف والحرف في الإسلام، ص154، مقال مجلة كلية الآداب بغداد عدد لسنة 1959. انظر برنارد لويس: العرب في التاريخ، ص130- فهمي عبد الرزاق سعد: العامة في بغداد، ص65.‏

والقوادين والمشعوذين(19).‏


المصدر: وقع تاريخ الحضارة الإسلامية


تفاعل مع الصفحة

تفاعل مع الصفحة